كنت أسير على أمل بالخير ووجل من الشر في مقدم تظاهرة مزارعي التبغ عندما انتبهت الى أني، ومن أجل أن أكون متقدماً على نفسي، عليّ أن أتأخر عن الصف الأول، عن الصورة، لأكون في الصورة.
لا اسبق الفلاحين بل أتبعهم، فأعصم نفسي بهم. تماماً كما تعتصم القلة بالكثرة. وتباطأت. وعندما أصبحت فيهم شعرت اني منهم. ولاح لي ابي، بظهره الحاني لشدة ما يعاني، كان قد وعدني ذات يوم بأنه سيسجلني في ثانوية المدينة الجديدة، إذا كانت تسعيرة الريجي لمحصول تبغه منصفة. وللمرة العشرين لم تكن كذلك، دمعت عينه وواعدني على الموسم التالي. ولكني لم أنتظر. نصحني مزارع أميّ وحصيف، ان أسافر الى حوزة النجف. ذهبت وعدت إماماً لقريتي. ولكن أمي وأختي، كانتا على موعد على مدى ليالي الصيف، لتؤما شتلات التبغ في البراري في صلاة طويلة، من منتصف الليل الى حمّارة الشمس. وأنا على طرّاحتي اقرأ القرآن وشعراً متذمراً من تعبي جراء إمامتي اليومية للمصلين في الجامع الظليل، لدقائق. وأعود الى نوم القيلولة بعد الظهر.
كل منا، وإن لم يقرأ كلام ماركس عن الخيانة الطبقية، يعرفها ويخافها ويقع فيها. وقد يتوب. نحن ايضاً نقتل الوطن بالحب وبالكره، خيانة بالحب وخيانة بالبغض، نحب الوطن ونكره المواطن أو نكره الوطن (يعني الأرض أو الناس أو الدولة، غير السلطة، والاستقلال والسيادة والوحدة). فنكره المواطن والمواطنة. ونحب التواطؤ.
استعرت كتب التاريخ من تلميذ في المتوسط. قرأت من عامية لحفد الى عامية انطلياس، التي غابت عن ذاكرتي وحلت محلها كومونة “كرونشتاد” التي فتك فيها الجيش الأحمر بقيادة وزير الدفاع الأممي الطبقي (تروتسكي) وأوامر لينين، بالعمال والفلاحين المطالبين بحقوقهم (آلاف القتلى)، لأن الأولوية أعطيت لحماية السوفيات. اللجان الثورية، أعطت الأولوية للحزب الذي أعطاها للقيادة العليا التي أعطتها بدورها للأمين العام يشاركه رجل الامن الأول (بيريا مثلاً).
لذا علّقت صورة غيفارا في منزلي المكون من غرفة واحدة كانت واسعة سعة قلبي وقتها (يعني قد الدنيا). طبعاً كنت وقتها طالباً في الحوزة الدينية في النجف، وابتسم أصدقائي وأساتذتي بتساؤل: فقلت لهم أنا متأثر بنهج البلاغة ونهج علي. لذلك أحب غيفارا ولا أحب كتاب “المادية التاريخية والمادية الجدلية” الذي نحله الشيوعي المستنكف مبكراً (قدري قلعه جي) للأمين العام خالد بكداش. وكانت الصورة المعلقة من دون عناية كافية تلوِّح مع اي نسمة هواء، وكأنها ورقة من نهج البلاغة مفتوحة على عهد علي الى مالك الأشتر عندما ولاه مصر.
وأحببت الاب كاميليو توريس، الذي ظلمته كنيسته والشيوعيون والمستبد، وبعد عقود أحببت بولس مسعد البطريرك، الذي واظب على مرصده في أعالي الجبل وتد لبنان، يرى الجميع ويرونه، فيسر به قوم ويتبرم منه آخرون، لأن الاعتدال في عرف المتطرفين، ثواراً و(روحانيين) وإقطاعيين، تطرف، من هنا كانت معاناته مما عاين، ولكنه عاند، وقرر أن يبتدع أو يبدع حلولاً وسطية، اي أقرب الى الحق والحقيقة والعدالة. ومثالية لأنها واقعية.
أنصح باستعادته وتعميم أطروحته كأمثولة. تصلح ليومنا وغدنا مع مراعاة المتغير.
وأتساءل: هل تسمح لي بكركي بكلام شركة من موقع لبناني معني فأقول: إن بكركي لا تشكو من نقص في الهم والاهتمام والحركة والفعل، وإن كان البعض يرى أنها تشكو من فائض حيوية، ينبغي توفير كثير منها، والتركيز على ضرورة انجاز التفاهم الماروني على الرئاسة، بالتنازل الشجاع من أجل انتخاب رئيس لا يهزم الا من يريد أن ينهزم، وليس من الضروري أن يكون تكنوقراطاً أو موظفاً ادارياً من الدرجة الأولى، لأن الأزمة تحتاج الى ادارة سياسية إن لم يتيسر الحل، حتى يتم الحل المربوط بحلول صعبة حتى الآن، من سوريا الى العراق الى الملف النووي الخ… وقسم كبير من اللبنانيين لا يريدون بكركي ناخباً مرجحاً أي أكثر من ثانوي واقل من حاكم، ويسألون الله أن يعفيها ويعفينا من هذا الكلام، باستواء الادارة اللبنانية على حال من انتاج رؤسائنا فلا نكون معمل (تجميع) لقطع حافلتنا المستوردة من بلاد عدة، وقد تركنا لأنفسنا أو ترك لنا اختيار اللون والزيادات التزيينية والمنبه الصوتي الخ… الأفضل ان تكون بكركي ناخباً كبيراً، يخشى الجميع مخالفتها، من دون أن تكون شريرة، لأن الأخيار في مثل هذه المحطات، يكفي منهم “الزعل” أو الصمت أحيانأً، ليعرف المقصر انه مخطئ. فيكابر أو يغير. وإلا فإن شهوات الرئاسة المنفلتة الى حد العمى وتعطيل البلد، ستعمل على تحويل بكركي مفتاحاً انتخابياً في الحي اللبناني، لا حارة الموارنة وحدها، وبكركي التي يعلو رأسها جسدها بالانتخاب الديموقراطي بنسبة قد تتراجع من دون أن تتلاشى، تعرف كيف تدير التفاهم الديموقراطي على الاسماء والمسميات .
نريد شاقوفها ومطرقتها وإزميلها، وشغلها في الليل أكثر من النهار، على ضوء قمر مشغرة ووادي التيم، تحفر في الصخرة المارونية لتعيد تأهيلها بالمحبة والشركة والعدالة التي تعني الفقراء من دون ابتذال طبقوي غشاش وكاذب لتكون، لتعود حجر الزاوية. لا تفتئت على حجارة الزوايا الأخرى، بل تسندها وتستند اليها. ليعلو بيتنا، حيّنا اللبناني الجميل لأنه متعدد.
إن أمثولة لبنان في عامية انطلياس، تحتاج الى إعادة قراءة، الى نقد يسبرها. الى إعادة كتابة بريشة عتيقة وحبر جديد، أسطراً مستقيمة وحروفاً متعرجة. حتى لا يكون الدغري السهل على الكسالى، سبباً في تفجير الألغام. ما قرأته عن انطلياس والاصدقاء الأعزاء والأشقاء والألداء للبنان وحكام القائمقاميتين وحكامهم وللفلاحين وظالميهم معاً، وعن الاسياد العفاريت الشقر مختلفي اللكنات والجنسيات والرغبات، يقول ان هناك سننا تاريخية تشبه القوانين التكوينية، تتكرر اذا تكررت شروطها. ومن هنا، وبعدما شوهت حروبنا مواجع ومطالب الكادحين، الذين يصلّون الجمعة والأحد تحت القبة الزرقاء إياها، نحن مضطرون أن نبدأ من أنطلياس، من مكان وزمان وإشكالية وتوجه مشابه من دون داعٍ للنسخ أو الاستنساخ حتى لا تكون النتائج متماثلة، فلا الإقطاع القديم والجديد يربح حراماً أو حلالاً ولا الفقراء يستريحون من تراكم الفروق بين العرق والمَرَق.
عندما لاح لي والدي ومعه آلاف يشبهونه خُلقاً وخَلقاً، دماً وعرقاً، تبغاً وقمحاً، في التظاهرة، ابتسم لي صديقي المعلم الذي يزرع تبغاً أيضاً ويغني عتابا وميجانا ليطرد النعاس في ليالي القطاف، وأشار الى أبي وتساءل: ألا يشبه والد طانيوس شاهين . يا أخي ذاك ملبد وبسروال عربي ووالدي حاسر ببنطال فرنجي . كأنه يريد أن يقول إني اشبه طانيوس شاهين، ولكن كيف؟ هو مسيحي وأنا مسلم! هو شيخ الفلاحين وأنا شيخ فلاح. يا شيخنا والمواطنة. ليش ناسيينها؟ شو صار، لوين رايحين. والظلم ملة واحدة؟ هل كان الرجل يحرضني على أحد؟ أو يزجرني عن جعل عبادتي طريقاً الى الله من دون الآخر المختلف أو على حسابه. إذن هي لن تصل، واشهد أنها لم تصل. والله أكبر على هذا اللعب بدين الناس ودنياهم!
انا هنا الآن اصلي مأموماً وإماماً إن شئت، شاء بعضكم أم لم يشأ، لأني رهن مشيئة الذين يبغون خلاصاً، ويؤمنون بأن الخلاص فردي كما هي المواطنة والدولة العادلة.
أكملوا قداسكم، لا داعي لإمام ومأموم. ليكن كل منا إمام نفسه ومأمومها. يكفي. ولا داعي. اقرأوا شيئاً من نهج البلاغة على المذبح . لا من أجل عيوني، من أجل عيون فلاحي طانيوس شاهين، ومزارعي ريف إدلب ودرعا وسهل نينوى وقراقوش، والتلميذات أسيرات بوكو حرام والأب باولو والمطران ابرهيم واليازجي ومحمد الدرة ورضيع الحسين المقتول بالسهم في نحره في لحظة ظمأ. والطفل في المغارة. وأمه مريم.
“ما حرم فقير إلا بما متع به غني”، “كادت الفاقة ان تكون كفراً”، يا وعاظ الجمعة والأحد، اسمعوا، “ما ذهب الفقر الى مكان إلا وقال له الكفر خذني معك”.
أخشى أن يكون الذين يحتشدون في أماكن العبادة هذه الايام يقتربون من الكفر والكفر المسلكي اسهل وأقسى من الكفر العقدي، وقد يكون له ألق إثبات، بينما يفسر إثبات الكفر العقدي أكثر الأحيان، إلا لدى أرباب الجهل والعمى وعشق الجريرة. ونحن ننتظر أذان المغرب لنفطر على الماء محلّى بعسل النحل السوري من يبرود. وابن يبرود يفطر عندما يجد كسرة خبز يابسة أو عطنة ويشكر الله على النعمة. وفي لبنان فقر تزدهر معه الزبائنية السياسية والجريمة، حتى متى نعيش أو نتعيش على إفقار الناس لا فقرهم، وعلى تجهيلهم لا جهلهم (لا يجهلن احد على الفقراء، فيجهلوا فوق جهل الجاهلينا) هكذا قال لي طانيوس شاهين.