من الحكمة أن يُقارب اللبنانيون ملفّ المخطوفين العسكريّين من دون العودة الى الوراء، وتحديداً الى التجارب السابقة، من ملف مخطوفي أعزاز الى راهبات معلولا. ففي الملف الأخير عوامل ومعطيات لا تُشبه أيّاً ممّا سبقها، وعلينا الاستعداد لأشكال جديدة من المواجهات والمفاوضات. لماذا هذا التمييز؟ وما هي الفوارق؟
حتى الأمس القريب، يَتلمّس المتعاطون في ملف المخطوفين العسكريّين لدى المجموعات الإرهابية عناصر كثيرة جديدة، ما يجعل الملف في مصاف القضايا الجديدة التي لا تشبه سابقاتها، وهو ما سيَدفع الى استراتيجيّة جديدة للمواجهة ومواكبة مراحل المفاوضات التي يُتوقّع أن تكون صعبة للغاية.
ويعترف المتابعون أنّ الكشف العلني عن هويّة العسكريين المخطوفين والجهات الخاطفة لم يمنع التنكيل بهم أو قطع رأسَي اثنين منهم على الأقل، وهو ما يدلّ على أنّ «داعش» هي غير «جبهة النصرة» والألوية الإسلامية الأخرى التي أدّت أدوارها في أعزاز ومعلولا. فبمجرّد الكشف عن هويّة الخاطفين وإرسال أوّل فيلم مُتلفز عن المخطوفين في أعزاز، ضَمِن الوسطاء سلامتهم.
كان واضحاً في المرة الأولى أنّ الخاطفين من الجماعات الإسلامية في أعزاز ويبرود كانوا يريدون شيئاً من النظام السوري أكثر ممّا يريدونه من لبنان. وفي الحالين السابقتين وضع النظام السوري في المواجهة، فسَلّف الوسطاء اللبنانيين والقطريين ما لم يسلّفهم إيّاه أحد سابقاً، فأين هو العامل السوري اليوم؟
في جرود عرسال اليوم قضية من نوع آخر، فالخاطفون لا يريدون شيئاً من النظام السوري بمقدار ما يريدونه من لبنان. ففي أبسط الأحوال كان الخاطفون يريدون التعبير أوّلاً عن رفضهم حَجم تورّط «حزب الله» في الأزمة السورية، وتحديداً في المناطق التي يواجهون فيها الحزب والنظام السوري معاً.
وكانوا يريدون ثانياً الاحتفاظ ببقاء عرسال القاعدة الخلفية الطبية والتموينية والإنسانية، والاحتفاظ بخطوط العبور منها واليها، قبل ان تتطور الأمور الى طرح المقايضة بالإسلاميين الموقوفين في سجن رومية ومطالب أخرى ما زالت مُلكاً لـ»الوسيط السوري – القطري ومحاوريه اللبنانيين والسوريين على ضفّتي المفاوضات».
ويعترف المعنيون أنّ الانتقال من الشق الإنساني والطبي والتمويني الى الشق المذهبي والطائفي في لبنان زاد من تعقيدات القضية. لأنّ تصنيف المخطوفين بين سنّة وشيعة ودروز ومسيحيين وطرح المقايضة بالإسلاميين، وَسَّع بيكار المواجهة بين المكوّنات الحكومية والطائفية والمذهبية في لبنان، وجعل جزءاً من اللبنانيّين في مواجهة جزء آخر، وهو ما ترجَمته عمليات الخطف المتبادلة والإتهامات التي رافقت تحميل اللبنانيين وزر عملية الخطف التي شهدتها حرب عرسال في يومها الأول.
فمجرّد البحث في التبادل مع منفّذي جرائم الاعتداء على الجيش اللبناني في أكثر من منطقة لبنانية، وعمليات التفجير الإرهابية في طرابلس ونهر البارد وعين علق، وصولاً الى الضاحية الجنوبية والهرمل، أدّى الى اعتبار جزء من اللبنانيين على لائحة رافضي التبادل والمقايضة أيّاً كان الثمن من أرواح العسكريين المخطوفين، أو أيّ من القضايا الأخرى الموضوعة على لائحة الملفات المفخخة في البلاد.
وقد عبّر الطرفان عن كثير ممّا يدلّ على هذه الحقائق بلا مواربة، وقد شهدت جلسات مجلس الوزراء، التي قاربَت الملف الى اليوم، كثيراً ممّا يعبّر عن احتمال تَفجّر الحكومة من الداخل بين يوم وآخر منذ الأسبوع الأوّل من آب الماضي.
وفي هذه الأجواء يتهيّب المعنيون بالملف حجم المَطبّات التي ستواجههم في مستقبل الأيام وهم يحتسبونها، ولن تفاجئ أحداً منهم. فهم يدركون أنّ الخاطفين يستعجلون الصفقة بين يوم وآخر في مقابل إدراك المفاوض اللبناني أنّ رفض المقايضة ليس محلياً فحسب، بل هناك رفض أميركي وأوروبي قاطع لها تَبَلّغه لبنان. وما زاد الطين بلّة أنّ رافضيها لا يملكون خططاً بديلة، وهي، إن وجدت، لم تُطرَح بعد؟