كانت المعزوفة لدى أنصار صدّام حسين يوم اجتياح نظامه للكويت أنّه قام بـ»تحطيم نظام التجزئة القطرية». اليوم ثمة معزوفة جديدة، يردّدها تنظيم «داعش» وأعداؤه على حدّ سواء، وتتعلّق بـ»تحطيم اتفاقية سايكس ـ بيكو» في ضوء تمدّد سيطرة التنظيم على جانبي الحدود السورية – العراقية واعلانه كنسَ هذه الحدود وهدم صنم «الوطنية».
بيد أن العودة الى الخارطة المتفق عليها بين وزير الخارجية الفرنسي فرنسوا جورج بيكو ونظيره البريطاني مارك سايكس ستظهر لنا ما لا يسرّ خاطر «داعش» وسائر جوقة «نهاية سايكس ـ بيكو». هذه الخارطة تفصل بين «منطقة زرقاء» تحت الادارة الفرنسية المباشرة وبين «المنطقة العربية ألف» التابعة للنفوذ الفرنسي انما المفترض ادارتها محلياً. المنطقة الزرقاء تمتد من قبادوكيا وكيليكيا – أو ارمينيا الصغرى، وتمتد غرب سكة حديد حلب – حماة – حمص – دمشق وتتركز فيها الأقليات المسيحية (الأرمن بالدرجة الأولى ثم الروم والموارنة)، والمسلمة غير السنية (العلويون، الشيعة، الدروز). حدودها الشمالية تكاد أن تكون حدود «مملكة الرها الصليبية» في العصر الوسيط، وحدودها الجنوبية الجليل. هي اذاً منطقة ساحلية بامتياز، مع عمق بري من ناحية كيليكيا ثم سلسلة جبال شرق المتوسط الساحلية. وهي منطقة «حلف أقليات» بامتياز. هذه «المنطقة الزرقاء» لم يكتب لها أن تتجسد في واقع كياني مزمن بعد الحرب العالمية الأولى، لأن حرب الاستقلال التركية بقيادة مصطفى كمال تمكنت من ضرب عمقها الشمالي الذي كان يصل الى قبادوكيا والرها.
المنطقة الثانية واقعة شرق سكة حديد حلب – حماة – حمص – دمشق، وعرفت بـ»سوريا الداخلية» وهي تمتد ليس فقط حتى الجزيرة الفراتية بل تشمل سنجق الموصل، وتتاخمها من جنوب الشرق ولايتا السيطرة البريطانية المباشرة، بغداد والبصرة.
هذه المنطقة الثانية، أي بمسمى اتفاقية سايكس بيكو «المنطقة العربية ألف» هي، والى حد كبير اليوم، منطقة تمدّد تنظيم داعش، في حين أن «المنطقة الزرقاء» هي والى حد كبير أيضاً، منطقة «تجليات» حلف الأقليات الذي كان تجميعها مع بعضها البعض مادة أساسية للادارة الاستعمارية الفرنسية المباشرة لهذا الكيان. لو كتبت له الحياة كما أرادتها الاتفاقية الموقعة في السادس عشر من ايار عام 1916 لكان كيان أرمن – أرمينيا الصغرى، والعلويين، والموارنة، والروم، والدروز، والشيعة بامتياز، في مواجهة «سوريا داخلية» عربية سنية مفصولة عن البحر، وذات طبيعة «بانتوستانية». و»البانتوستان» باللغة الاستعمارية، هي أرض متروكة لسكانها الأصليين لعزلهم فيها عن المناطق التي تشهد عملية تمدين كولونيالية مباشرة.
عندما نتحدّث تاريخياً عن أثر اتفاقية سايكس ـ بيكو فهذا لا يتعلق بالخارطة، فهذه كما يفترض ان يكون واضحاً من الشرح، قد أطيح بها، مرة بتمكن الأتراك من فرض معادلتهم القومية في شمال «المنطقة الزرقاء» الفرنسية المزعومة، ومرة بتنازل الفرنسيين عن الموصل، وفي سياق تبني البريطانيين لعملية تأسيس كيان وطني جدّي هو الكيان العراقي، ومتصالح مع الفكرة القومية العربية كونه يطرح نفسه «بروسيا العرب»، في مقابل كمّ من المجون الاستشراقي الفرنسي في سوريا، الذي حين استجمعت أشلاء متحدها الطوائفي ظلت كياناً ينفي نفسه بنفسه.
المفارقة اليوم، أنّه، ما بين شبكة «حلف الأقليات» اللبنانية – السورية الأسدية، التي تمتد جبهتها القتالية الأساسية على طول سكة الحديد العثمانية حلب – حماة – حمص – دمشق، وما بين امارة تنظيم «داعش» في الموصل والرقة وصولاً الى حلب، نحن أمام احياء لمنطق الخارطة التي رسمها سايكس وبيكو، حيث «منطقة زرقاء» تجميعية للأقليات ومتمددة على الساحل، ومنطقة «عربية ألف» مفصولة عن الساحل، وتشمل الموصل، وسوادها الديموغرافي سني عربي!