تواجه اوروبا موجتين من التطرف في آن، واحدة يمينية مسيحية تشدد على الهوية الاصلية البيضاء وتعادي المهاجرين والوحدة الاوروبية وتدعو الى اعادة قولبة المجتمعات الاوروبية على اساس العرق والقومية والدين، واخرى اسلامية تواجه عقبات عملية الدمج الاجتماعي بالعنف وتدعو الى التمرد على النظم المختلطة القائمة، معتبرة القتال في ساحات “الجهاد”، وفي مقدمها سورية، تدريباً على معركتها المستقبلية في اوروبا نفسها.
وليس صدفة بالتأكيد التزامن بين هذين التيارين، ذلك ان كلا منهما يعتبر نفسه بمثابة رد على ما يرى انه فشل التركيبات السياسية الاوروبية في تلبية تطلعات مجتمعاتها، ويتغذى من مواقف الآخر وسلوكه، ويبني حملاته وشعاراتها على الاستعداد لما يعتبره جنوحاً لدى الآخر الى افتعال مواجهة معه.
وتنشغل الدوائر السياسية والاعلامية والاكاديمية في كل من فرنسا وبريطانيا والدنمارك ودول اوروبية اخرى بنقاش محموم حول اسباب صعود اليمين المتطرف وتنامي مؤيديه، بعد الفوز الكبير الذي حققته حركاته في هذه الدول في انتخابات البرلمان الاوروبي، وحول ابعاد هذا الانتصار وتبعاته على الاوضاع السياسية والاجتماعية في هذه البلدان.
وفي حين يستخف اليساريون، وخصوصا في فرنسا، بأهمية الظاهرة ويعتقدون انها موقتة ويعيدونها الى النكسة الاقتصادية التي تشهدها القارة العجوز منذ سنوات وتكاد تشفى منها، هناك من يعتقد ان ظاهرة التطرف اليميني ليست مستجدة، بل تمتد جذورها في الماضي الاوروبي غير البعيد الذي انجب في النصف الاول من القرن العشرين احزابا قومية وفاشية في المانيا وايطاليا وفرنسا ودول اخرى تسببت في حربين عالميتين، قبل ان تنكفئ لفترة ثم تعاود الظهور في ثمانينات القرن الماضي، وانها قد تنجح مجددا في العودة الى صدارة المشهد السياسي اذا احسنت استغلال الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يشكو منها الجميع.
وعلى رغم انها لا تشكل حتى الآن تهديدا فعليا لانظمة الحكم العلمانية وشبه العلمانية في اوروبا، الا ان صحوتها الجديدة جعلت صيحات التحذير تنطلق بقوة، وخصوصا بعد تركيزها على مجالات جديدة، ولا سيما التعدد الثقافي الذي ترى انه يهدد الهوية الاوروبية، وتسعى الى ضربه.
وفي المقابل، اثار وجود الآلاف من المقاتلين الاوروبيين، وغالبيتهم العظمى من اصول عربية وافريقية، في سورية ومناطق “جهادية” اخرى، قلقا كبيرا في دولهم، ليس لأن هؤلاء قد يعودون يوما ويشكلون تهديدا ارهابيا فحسب، بل لإن البيئة الحاضنة لهؤلاء المقاتلين تؤكد وجود اعداد مضاعفة من المتطرفين والمتعاطفين معهم، توحي بها قدرتهم على تنظيم عمليات التجنيد والانتقال والعودة بفاعلية، على رغم الاجراءات الامنية المتخذة ضدهم، والتي شملت اعتقالات احترازية.
وتبين ان انشطة هذه الجماعات المتعددة آخذة في الاتساع وتهدد بتنويع مروحة استهدافاتها، حيث تعتبر ان هناك تمييزا عرقيا ودينيا في حق الاوروبيين من اصول عربية يبقيهم على هامش مجتمعاتهم.
لكن المشكلة الاساسية الاخرى بالنسبة الى الدول الاوروبية هي ما يعنيه تنامي التطرف الاسلامي من فشل السياسات الاجتماعية المعتمدة في دمج اجيال الشبان المولودين لعائلات هاجرت الى دول القارة، بمجتمعاتهم، وهذا ما يستخدمه ايضا اليمين المتطرف الذي يعتبر ان المشكلة في الهجرة نفسها وفي التقديمات الى المهاجرين الذين لا يزالون يعادون اوطانهم الجديدة.
وفي الوقت الذي يقف القادة الاوروبيون عاجزين امام ظاهرتي التشدد الاسلامي والمسيحي-اليميني وكيفية مواجهتهما، يشحذ المتطرفون من الجانبين اسلحتهم، وقد لا يمضي وقت طويل قبل اندلاع المواجهة بينهما.