عندما كان الدكتور شارل مالك وزير لبنان المفوض في الولايات المتحدة الأميركية عام 1949 رفع إلى وزير الخارجية اللبنانية تقريراً سرياً مع نسختين واحدة لرئيس الجمهورية وأخرى لرئيس مجلس الوزراء، وقد حذّر فيه من “أن العهد اليهودي آت لا بد إذا ظل العالم العربي على تأخره وتفككه. فما اشبه الامس باليوم وكم كان الدكتور مالك صائباً في رؤيته.
لقد عبّر هذا التقرير عن الصورة التي تظهر بها أحوال لبنان والمنطقة من شرفة العاصمة الاميركية، وهي شرفة مهمة في تقرير مصائر الاشياء، فطلب الدكتور مالك إعارة هذا التقرير بعض العناية، وقال إنه يكون شاكراً إذا تلقى رأياً في الامور التي يبحثها التقرير، وهو مستعد لايضاح أي مسألة فيه قد تظهر غامضة أو متناقضة مع غيرها أو غير مشروحة شرحاً كافياً او الاستفهام عن اية قضية مهمة لم يتناولها التقرير بالبحث الواسع.
اما القضايا الاساسية التي حرص الدكتور مالك على إثباتها في متن التقرير فهي الآتية:
1 – فلسطين مرآة الوضع العربي العام ومحوره، والفترة الحالية هي فترة انتقال موقت تستعد فيها اسرائيل للتوسع، وتريد اسرائيل أن تبرهن انها هي المختارة لأن ترث وتنمي الشرق العربي. وكما ان الشرق الادنى عُرف في التاريخ، كله او جزؤه، بالعهد الروماني او بالعهد البيزنطي او بالعهد العربي او بالعهد التركي او بعهد الانتداب، فإن الصهيونية تريد ان يُعرف بالعهد اليهودي او الاسرائيلي، وسيأتي العهد اليهودي حتماً إذا ظل العالم العربي على تأخره وتفككه، وأن وزن العرب لا شيء الا في البلاد العربية، وحتى هذا ضئيل في الوقت الحاضر، وبرغم ذلك فلا يزال مصيرنا بيدنا.
2 – إن تثقيل وزن العرب هو ان ينقلوا اتكاليتهم من كونها على الظروف وعلى العوامل الخارجية واللاانسانية إلى ان تصبح على التخطيط العقلي المسؤول وعلى العوامل الانسانية والداخلية. فالنور والمعرفة والحقيقة والحرية هي شرط النهضة المرجوة، ولا مصير للعالم العربي بدونها.
3 – تجديد الجامعة العربية شرط أساسي لأية نهضة عربية، ويمكن تجديد الجامعة بشكل “حلف عربي” تمشياً مع الجو الدولي الحاضر. فخلاص العرب في تقوية جيوشهم فقد حان وقت بزوغ حركة تحريرية صحيحة شاملة، وأن لبنان وسوريا، بين جميع الدول العربية، مدعوان لقيادة هذه الحركة.
4 – لا بد أن تتقارب آخر الامر مصالح بريطانيا ومصالح اسرائيل في الشرق العربي وقد تصبح بريطانيا نصير العرب الاول إذا نهضوا وصادقوها، وآمل بأوروبا أكثر مما آمل بأميركا، وأدعو الى التفاهم الصريح الشامل البعيد المدى مع انكلترا أو فرنسا، فوزن العرب في أميركا لا شيء بالنسبة لوزن اليهود، وفي كل تعارض جوهري بين المصلحة الاسرائيلية والمصلحة العربية ستؤيد أميركا المصلحة الاسرائيلية. وأحذّر كل التحذير من الارتماء الاعمى في فخ اغراءات المشاريع الانشائية الأميركية بدون تمحيص تام لها ولعلاقة اليهود بها. فبرغم الحيف الذي أوقعته وستوقعه السياسة الأميركية بالعرب، فإن الخلق الأميركي في جوهره سليم طيب ونبيل، وهو ما قد يحدث في المستقبل البعيد رد فعل شعبي في أميركا ضد السيطرة اليهودية على شتى نواحي الحياة الأميركية.
5 – إن القوى المسيحية على العموم، والكنيسة الكاثوليكية على الخصوص، حليفة للعرب في نضالهم ضد الصهيونية.
6 – أحذر من الارتماء في احضان الروس سياسياً، ويجب التعاون تعاوناً وثيقاً مع نهضات آسيا وخصوصاً مع نهضة العالم الهندي.
هذه هي تنبؤات الرجل الرؤيوي الدكتور شارل مالك منذ 65 سنة، وقد جاراه في ذلك المفكر الكبير ميشال شيحا الذي استشرف في الخمسينات مآلات سلبية من ثالوث الحق والخير والجمال ولاسيما في ضوء الشرق الذي يتصدى للغرب هازئاً، والغرب الذي يعتبر الشرق مسخاً ويعتبره ضلالاً يبطل معنى الحياة والموت. وقد اعتقد شيحا أن القوانين في لبنان ليس لها في الغالب سوى قيمة نسبية وما من بلد يقدر الاشياء المادية تقديراً دقيقاً واثقاً مثلما يقدرها اللبنانيون، ذلك ان اللبناني يعرف كيف يشتري ويبيع، وما دام المال يشكل أهمية كبرى في حياة اللبنانيين فإن شيحا يتمنى أن يتوافر هذا المال لخدمة الحق والخير والجمال. وحذَّر من عدم صنع جماعات من المواطنين يرافقه تحذير آخر من وجود اسرائيل التي هي محاولة للسيطرة يتعهدها أبعد المفكرين بصيرة وأشد النظم حزماً وأكثر وسائل النفوذ تنوعاً وفعالية. وقد نبه الى خطر اسرائيل على لبنان بقوله “ان من يتاخم اسرائيل يتاخم دولة عالمية ومشتلاً للعنصرية. إنها بدعة الارض وواحدة من أغرب مغامرات العصر وأبعدها دوياً”…