التقسيم ينطلق من العراق إلى الإقليم. من العراق أولاً، أو لا ينطلق. لا من سورية ولا من أي بلد آخر من بلاد الشام. أرض الرافدين هي خط التماس الأول والأكبر والأكثر حرارة، مذهبياً وعرقياً. هي خط النار المشتعل دائماً. ليس من أيام النجف وكربلاء. قبل ذلك منذ الفتح الإسلامي والصراع العربي – الفارسي. بل أبعد من أيام الصراع بين الفرس والبيزنطيين، وبينهم وبين الفراعنة. كانت ولا تزال خط التماس بين إمبراطوريات وحضارات وثقافات. وهو ما طبع أحداثها دائماً بهذا الطابع الدموي الحاد. حقيقة يتذكرها اللبنانيون جيداً عندما كان فريق منهم ينادي بالتقسيم أثناء الحرب الأهلية. كان العراقيون يذكّرونهم بأن التقسيم مستحيل إذا لم يبدأ من العراق أولاً! ولا يكفي بالطبع أن تتوافر له إرادات محلية. لا بد من ظروف إقليمية ودولية مواتية.
أياً تكن التطورات المقبلة ونتائج المنازلة الكبرى التي يُعد لها لمواجهة «داعش» وأخواتها، الظروف تبدلت فعلاً. تغير وجه الإقليم. فشلت النخب التي ورثت الانتداب في حماية هويات الدول الوطنية وصهر مكوناتها في وحدة صلبة. وفشل النظام العربي في حماية أهله من تدخل المتدخلين. صفحة تطوى وأخرى تفتح على أشلاء الضحايا وركام المدن والنواحي المتهاوية، والتطهير والتهجير وأطنان من الأحقاد والثارات… لا مفر من إعادة هيكلة الكيانات القائمة سريعاً قبل أن تتصدع وحداتها نهائياً وتنهار كل الحدود.
ثمة أسئلة كثيرة تعزز الأجوبة عنها موقف المولعين بنظرية «المؤامرة». أولها هذا التوقيت الذي اختارته «داعش» لإعلان حربها على ما تسميه «جيش نوري المالكي». وأنى لها هذه القوة لتلحق هزيمة بجيش نظامي جرار؟ ولماذا لم تندلع الشرارة طوال سنتين من تظلم المحافظات السنّية وتعرضها لهجمات؟ انطلقت الشرارة غداة إعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد بدعم واضح من إيران وفي مواجهة رفض غربي وعربي واسع. انطلقت مع بدء الحديث عن سعي زعيم «دولة القانون» إلى ولاية ثالثة، وبدعم من إيران أيضاً في مواجهة رفض معظم القوى السياسية المعنية بالشأن العراقي في الداخل والخارج. انطلقت مع نشوء التعــــقيدات في المحادثات الخاصة بالملف النووي بين الجمهورية الإسلامية والدول الست الكبرى. ويمـــكن بعض اللبنانيين أن يزعــــم أيـــضاً أنها انطلقت مع الفشل في اختيار رئيس جديد للجمهورية قريب من «محور المقاومة». والسبب أن كبير مرشحيهم، حليف «حزب الله»، عجز حتى الآن عن تسويق نفسه رافعاً شعار «أنا أو لا أحد»!
ببساطة، يوحي التوقيت للمولعين بنظرية المؤامرة بأن لطهران يداً. والرسالة واضحة: يستحيل أن تتخلى طهران عن حليفيها في دمشق وبغداد… وبيروت أيضاً التي نجحت أجهزتها الأمنية حتى الآن في مطاردة مجموعات «داعشية»… باستثناء أحدهم أفلت و «جاء عكس السير» على ما نسب إلى وزير الداخلية! «انتظروه من الشرق فأتاهم من الغرب»، وطار موسم السياحة وفرغت الفنادق! تريد طهران تسوية لملفها النووي لا تتسبب بمزيد من الصراع الداخلي بين أجنحة السلطة، ولا تطوي صفحة برنامجها النووي. وتريد فوق هذا وذاك ألا تنازعها قوة وتجرها إلى البحث في مستقبل كثير من مواقع بنتها في السنوات الماضية في طول المنطقة، من بغداد إلى المتوسط. تريد باختصار الحصول على الكعكة كاملة من دون شركاء. سواء كانوا أميركيين أو عرباً قريبين أو بعيدين! وسواء أدى ذلك إلى انهيار دولتين عربيتين أساسيتين في حفظ التوازن والاستقرار للنظام العربي، ووقوف بلد آخر على شفير الهاوية.
ثمة أسئلة مقابلة لا تعوزها أصواتاً تتهم خصوم طهران باختيار الوقت المناسب لتفجير قنبلة «داعش» التي لا جدال في أنها تشكل تهديداً لمصالح الجمهورية الإسلامية وحلفائها في العراق وسورية ولبنان. لم تعد سورية ساحة استنزاف وحيدة لإيران. بات عليها أن ترد على تحدٍّ خطير لنفوذها في بلاد الشام كلها. لن يكون تناول الكعكة سهلاً. لن تكون الإقامة على هذه المساحة الواسعة من العالم العربي مريحة. ستقتصر الإقامة ربما على مناطق سيطرة حلفائها.
أياً تكن الأجوبة عن هذه الأسئلة، الحقيقة التي لا خلاف عليها هو أن تحرك «داعش» ومن معها وناصرها أعاد خلط الأوراق. وخلق معطيات جديدة على الأرض. وهكذا وجد الأميركيون أنفسهم أمام وضع لا يحسدون عليه. ويخشى أن يكرروا أخطاء الماضي القريب بتخاذلهم حيال الأزمة السورية. وكانوا أخطأوا في غزو العراق. ولم ينصتوا لصوت عقلاء أوروبا. واخطأوا في الانسحاب منه سريعاً بعدما كانوا سارعوا إلى تسريح جيشه. هذا التسريح الذي أفادت منه قوتان إقليميتان رئيسيتان هما إسرائيل وإيران: شُطِب العراق من معادلة الصراع مع الدولة العبرية. وأُزيحت القوة التي وقفت في وجه الجمهورية الإسلامية طوال عقد، في حرب الخليج الأولى. ولا ترغب هاتان القوتان بالتأكيد في رؤية مؤسسة عسكرية قادرة في العراق مجدداً. ومثلهما الكرد الذين يقلقهم قيام جيش جيد التسليح والــــتدريب، وذاكــــرتهم مليئة بمآسي الماضي البعيد والقريب في صراعهم مع الحكومات المركزية في بغداد. لــــذلك، لم يتأخروا أبداً في تعزيز إقليمهم بالانتـــشار في كركـــوك ومناطق أخرى متنازع عليها. ناشدوا الولايات المتحدة سابقاً ألا تمد «جيش المالكي» بطائرات متطورة. وانتظروا عشر سنوات لتسوية الخلاف على هذه المناطق، مع علمهم أن لا زعيم في بغداد يمكنه التنازل عنها. يريحهم ضعف المركز. يريحهم الصراع المقيم بين الشريكين العربيين الآخرين.
لا يمكن إدارة أوباما التي تواجه خطر «القاعدة»، مثلها مثل إيران عاجلاً أم آجلاً، سوى التفاهم معها على وجوب إجراء إصلاحات جوهرية في كل من العراق وسورية يشعر معها السنّة، وهم الأكثرية في البلدين، بأنهم شركاء حقيقيون في القرار وإدارة شؤون بلديهما. من دون ذلك لا يصح أن ترتكب واشنطن خطأ مميتاً بدعم الجيش العراقي ما لم تضمن تنحي المالكي أولاً، وهو ما ستعتبره طهران ضربة قاسية. ولا يكفي خروج الرئيس أوباما طالباً من الكونغرس الموافقة على تخصيص نصف بليون دولار للمعارضة المعتدلة في سورية، تسليحاً وتدريباً، فيما يصم أذنيه عن أصوات سنّة العراق. كأنه يوحي بنوع من التوازن: يعطي هنا ويتجاهل هناك. بات الربط بين الساحتين محكماً لا فكاك منه سياسياً وعسكرياً. لذلك، لا بد لأي مبادرة أميركية من أن تتناول أزمتي البلدين كأنهما واحدة. وإلا ترسخ الانطباع بأن الاستراتيجية الإيرانية هي الغالبة والمنتصرة دائماً، وأن الولايات المتحدة هي الخاسرة الدائمة! وكذلك لن تنجح أي مبادرة ما لم تحظ بتأييد غالبية القوى السياسية العراقية، الشيعية والسنّية والكردية.
«الدولة الإسلامية في العراق والشام» هي الرابح، ولكن إلى حين. فإلى المساحات الشاسعة التي سقطت في يدها، طغى وهج عملياتها على وسائل الإعلام. أدارت معركة إعلامية ناجحة حجبت دور غيرها من الفصائل والقوى التي لا تلتقي معها في الأهداف ووسائل إدارة المناطق التي خرجت عن سيطرة حكومة بغداد. وقد يجتذب هذا الوهج مزيداً من المقاتلين من أهل المنطقة وخارجها. وقد تقوى شوكتها على «شركائها» في الميدان. وستمد فرقها المقاتلة في سورية بالعديد والعتاد. وبدأت فعلاً بإرسال بعض ما غنمت من مخازن الجيش العراقي الذي أخلى لها كل شيء في المحافظات السنّية. وهو ما بدل وسيبدل في قواعد اللعبة في الساحة السورية. وأول الغيث عودة آلاف المقاتلين العراقيين الذين كانوا يناصرون النظام في دمشق إلى بلادهم لمواجهة تمدد «الدولة الإسلامية». ثم توجه الجيش السوري إلى مهاجمة قواعد «داعش» بعدما غض الطرف عنها لإلحاق أكبر الأذى بالمعارضة المعتدلة، ودفع الأقليات المذعورة إلى التمسك بالنظام القائم.
قد يُسر بعض المتشددين في إيران في سره. ينظرون إلى نهوض «داعش» عنصراً ضاغطاً على خصومهم، من أميركا وأوروبا إلى تركيا والمملكة العربية السعودية وغيرها من دول مجلس التعاون. لكن الصورة ليست بهذه الوردية. فأن تقرر إدارة الرئيس أوباما عدم التدخل العسكري المباشر في الأزمة، في ضوء التجربتين الفاشلتين في كل من أفغانستان والعراق، لا يعني أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على مواجهة التحدي، أو أن نفوذها بدأ يتضاءل. نفوذها يتراجع بسبب قرارها الانكفاء وإن بدا أن قوى إقليمية صاعدة باتت قادرة على منافستها ومشاركتها في اقتسام النفوذ والتأثير في مجريات الأوضاع في المنطقة.
أميركا ليست وحدها مرتبكة. إيران مهما بالغت في إظهار ارتياحها لا بد لها من أن تتحرك عاجلاً أيضاً. كيف ستتصرف إذا صمدت «داعش» في «دويلتها؟»، لا يمكنها أن تتدخل عسكرياً لئلا ترتكب الخطأ الذي ارتكبه المالكي، فتدفع أهل السنّة في طول المنطقة وعرضها إلى مواجهتها. ولا يمكنها الركون إلـــى واقع جديد يقطع بينها وبين حلفائها في سورية ولبنان بقــيام منـــطقة عازلة من شمال العراق إلى جنوبه الغربي، من الحدود مع الكردستانين وتركيا شمالاً إلى الحدود مع الأردن جنوباً. وليس قليلاً أن تعبر وسائل الإعلام في طهران عن المخاوف من المستجدات على الحدود الغربية! الذاكرة الإيرانية لا تزال تحتفظ بالكثير من ذكريات حرب الخليج الأولى. على الجمهورية الإسلامية أن تختار بين الاحتفاظ بالمالكي أو المجازفة بحضورها الفاعل في العراق.
يجب عدم التهاون مع «داعش». وهذه ليست مسؤولية الولايات المتحدة وحدها. إنها مسؤولية جميع اللاعبين في الساحة الشامية، غربيين وشرقيين، عرباً وإيرانيين وأتراكاً وكرداً. يجب أن تتقدم التسوية على تقدم «الدولة الإسلامية». والمؤشر الأول سيخرج من البرلمان العراقي الجديد في أولى جلساته. غير ذلك يعني أنهم جميعهم مسؤولون عن قيام أفغانستان الثانية، ولم تلتئم جروحهم بعد من الأولى… إلا إذا كان المطلوب التضييق على استراتيجية إيران وتفتيت بلاد الشام برمتها. وإذا بدا التقسيم عصياً في ظل الظروف الدولية المعقدة اليوم، فإن انغلاق كل طائفة أو مكون داخل حدود انتشاره ليس الحل الأمثل، وإن كانت البدائل شبه معدومة. مخرج كهذا سيشكل قنابل موقوتة لحروب أهلية مقبلة، مذهبية وعرقية. هل كُتب على الشرق أن تتناسل حروبه بلا توقف؟