من كلّ هذا الجَدَل الذي تجدّد، على أوسع نطاق، في عالم اليوم، بدءاً من فرنسا بعد المقتلة الأخيرة، هل ثمة ما يعني اللبنانيين بالمعنى الذي يسائلهم فيه عن أوضاعهم، وكيفية نظمهم لمعاشهم واجتماعهم وعلاقاتهم، أمْ أنّها وَقفة دراميّة جديدة، والسلام؟!.
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ ما يدور الجدل حوله هو قضية واحدة، لكن ما قد يبدو مسألة واحدة، هو في الواقع شبكة متشعّبة من المسائل، فـ«الارهاب» ليس مجرّد ردّ فعل على «رُهاب الإسلام»، لا هذا مجرّد ردّ فعل على «الارهاب»، واشكالية اندماج أبناء المهاجرين مختلفة نوعياً عن ترنّح أو انفجار المجتمعات التي يتحدّرون منها، والقيم العلمانية ليس من البداهة «أن تعدل» من تلقائها بين الأديان المختلفة، ولا التراثات الدينية وأنماط التديّن المختلفة عندها الأسلوب نفسه للتفاعل مع القيم العلمانية، وحرّية التعبير ليست مقولة محصّنة من النظر والتفحّص والتفكيك، كما أنّه من الصعب ادّعاء الانسجام اذا كنت تأخذ على «التكفيريين» أنّهم لا يحترمون ديانات الآخرين، في وقت لا تحترم فيه بدورك هذه الديانات والمعتقدات، أو تتذرّع بأنّك عادل كونك لا تحترمها جميعاً.
صحيح أنّ ردّة الفعل الأولى في فرنسا والغرب بدت أحادية. لكن سريعا تطوّر جدل يتواصل ويشارك فيه مفكرون كثر، في وقت ثمة من يحاول في بلداننا، جنوب المتوسط، أن يختصر الأمر بتبسيطات خاملة، والأهمّ من التبسيطات حصر المسألة في واحدة، في حين أنّنا أمام طائفة من المسائل المتشابكة، لكن المختلفة.
ان بلداً كلبنان لا يمكن أن يقف أبناؤه لامبالين حيال جدل حول «رُهاب الإسلام» لأنّهم عايشوا وخبروا وتجرّعوا أصنافاً منه، وحول «الارهاب»، لأنّهم تلظّوا بحممه ولا يزالون، وحول تبرير كل شيء باسم «مكافحة الارهاب» لأنّ هذه هي أقرب الطريق لمصادرة السياسة بحجة الأمن، ومصادرة الأمن بالخوف والتخويف من خوف أكبر. ولا يمكن لبلد الملايين من أبنائه مهاجرون، وعدد كبير من أبناء الشعبين الفلسطيني والسوري فيه لاجئون، أن يقتبس، على ما هو حاصل في ربوعنا، من دعايات «اليمين المتطرّف» الأوروبي، ما به يتم النظر الى قضايا المهاجرين.
باختصار شديد، التبسيط والتسطيح واختزال الثقافي في السياسي حيناً، كما لو كانت المسائل المتعلّقة بالمشاعر الدينية مسائل سياسية بحت، واختزال السياسي في الثقافي حيناً آخر، بتفسير ردّات فعل الناس تبعاً لانتماءاتهم اللاطوعية ليس الا، والطلب منهم التطهّر منها، في تعجيز خبيث مفتعل، واختزال السياسي والثقافي في الأمني، واستبعاد الاقتصادي – الاجتماعي عن المقاربة، كلّ هذا، شكل عائقاً يحول دون تسلّل الأسئلة المنبعثة من الحدث الفرنسي الى السياق اللبناني.
فكياننا الوطنيّ، عانى كثيراً «اسلاموفوبيا» شكّلت جزءاً من السردية المهيمنة عليه، و»مارونوفوبيا» شكّلت السردية المضادة، ولم تحصل الى الآن، المعافاة الحقيقية من «الفوبيات» هذه وسواها، بل شهدنا في السنوات الأخيرة كيف يمكن تأطير «الاسلاموفوبيا» مذهبياً بين المسلمين أنفسهم، وكيف اجتمعت «المارنوفوبيا» و»تحالف الاقليات» تحت سقف واحد، وكيف أمكن الجمع بين الارهاب ومكافحة الارهاب، وكيف افتقدنا لآليات نقاش هادئ وموزون حول مسألة اللجوء السوري الواسع الى لبنان. كلّ هذا كان يستحق الشبكَ مع متعلّقات الجدل الحالي المناظرة له، بدلاً من الاكتفاء بتبسيطات من نوع: الارهابيون مجرمون. يا له من اكتشاف! «ايه، وبعدين؟!».