Site icon IMLebanon

جعجع بين العدالة الانتقالية والتطلب الإنجيلي …

 

بين الكلام المنسوب إلى دوري شمعون عن أن سبعة من زملائه في المجلس النيابي «حمير»، وبين الكلام الآخر المنسوب إلى المطران سمير مظلوم، عن أن بعض الانتقاد لترشيح سمير جعجع الرئاسي لا ينم عن روح مسيحية، تصير الضرورة قصوى لكشف البعض القليل من الحقائق المحظورة. صحيح أن بعضاً من خصوم جعجع ورافضي ترشيحه، ينطلقون من حقد غير أخلاقي، أو من ماضوية هدامة. بعضهم تأبَّد الحقد فيه حتى أبَّد نفسه في الماضي.

لكن ماذا عن مقتضيات المستقبل، وماذا عن منطلقات القيم الأخلاقية والإنسانية نفسها، في مقاربة ما يمكن تسميته «مسألة جعجع»؟
فلنأخذ، مثلاً، معايير العدالة الدولية. تلك التي يحبها الفريق المؤيد لجعجع، ويحرص على تطبيقها كاملة وعلى فرض مساراتها. في الأمم المتحدة، المرجعية الأولى للشرعية الدولية التي يعشقها الآذاريون، هناك «المركز الدولي للعدالة الانتقالية». وهو إطار دولي متخصص في مساعدة الشعوب والمجتمعات والجماعات، على الانتقال من الحروب الأهلية إلى السلم المدني. تقول أدبياته ومبادئه إن الخطوة الأولى لهذا الانتقال، هي الاعتراف. اعتراف المرتكب بارتكاباته. من دونه لا تقدم ولا انتقال ولا عدالة. من دونه لا «تطهير للذاكرة»، كما طالب الإرشاد الرسولي الخاص بلبنان.
فلنبدأ من هنا، ولنسأل: بماذا اعترف سمير جعجع؟ باستثناء تطوعه أمام المجلس العدلي لاعترافه بتفجير مطرانية زحلة، لا شيء. هل اعترف بقتل رشيد كرامي؟ باغتيال داني شمعون؟ بتصفية الياس الزايك؟ طبعاً لا. فهو لا يزال قبل مرحلة الإنكار حتى. إنه في مرحلة اتهام آخرين بارتكاب تلك الجرائم. أحياناً يتهمهم بالتلميح، وأحياناً يتهمهم عبر قريبين بالأسماء والتصريح. على عكس أحكام القضاء. والحجة أنها كانت أحكاماً مزورة، في الزمن السوري. لكن نحو عقد قد مرّ على زوال تلك الحقبة السوداء. لماذا لم يخرج قاض واحد ليعلن أنه خضع لضغط، أو أنه أصدر حكماً لم يقتنع بحيثياته؟ ضابط سابق واحد يفضح تركيب الملفات. أين كل قضاة العدلية؟ أحدهم انتقل إلى المحكمة الدولية، بمباركة من حلفاء جعجع بالذات. هل أخذوه إليها إيماناً بعلمه ونزاهته وشجاعته؟ أم اعتقاداً منهم بجهله وفساده وطواعيته، بعدما أدان جعجع؟ قاض آخر عاد إلى كنيسته يصلي ورعاً. حتى أن حلفاء جعجع اليوم، كانوا قد قدّسوه بعد حكمه على جعجع بالأمس، وكتبوا فيه أسفار التمجيد. هل يعقل بعد تسعة أعوام أن صوتاً واحداً لم يخرج ليعلن أن تلك الأحكام كانت مغلوطة أو جائرة؟! لا قاض ولا ضابط ولا أمني. حتى نواب الزمن السوري، نواب عنجر والبوريفاج أنفسهم، وُجد بينهم من ينتفض بعد «الاستقلال الثاني». خرج منهم من يقول: نعم كنا خاضعين خانعين عملاء أذلاء. أما اليوم فقد عدنا أبطالاً أحراراً ثواراً، حتى صرنا نحاضر بالعفة والكرامة. لماذا لم يخرج قاض واحد ينقض أحكام جعجع؟!
أما المتحلقون حول الرجل ذاك النهار، فمساكين. أي انفصام في الضمير يعانون. أحدهم صدم كل رفاق جعجع يوم كاد يطردهم من مكتبه وهو يقول لهم: أنا لا أثق بالقضاء، لكنني أثق بشكل أعمى بمنير حنين. ما يقوله أصدّقه وما يصدره أتبناه. وكان منير حنين القاضي الذي أصدر القرار الظني في قضية داني، ومن أدان جعجع في قضية كرامي. ذاك الآخر هرب ذات يوم من وزير سابق أوقفه أمام تمثال العذراء في باحة الصرح، طالباً منه أن يقسم أمام السيدة بأنه يعتقد ببراءة الرجل. ولا يزال هارباً. الآخرون قالوا أكثر ويتندرون بالأمر ويتخذون من دماء الضحايا مادة لطرائفهم وقفشات السهرات… كي لا يُهتك من المستور أكثر…
ثم بعد الاعتراف يأتي الاعتذار، بحسب مبادئ القانون الدولي حول العدالة الانتقالية. والاعتذار لا يكون في المطلق الغامض المبهم. بل هو اعتذار واضح مباشر من الضحايا ومن ذويهم، على ما ألحق بهم من ضرر. فممن اعتذر سمير جعجع؟ باستثناء تلك العبارة الضحلة المضمون عن «أخطاء وقعت أثناء القيام بواجب وطني». أي واجب وطني قضى بقتل طفل؟ اي خطأ أدى إلى تفجير مروحية للجيش على متنها رئيس حكومة ووزير؟ مع من من الضحايا أو ذويهم صار ولو لقاء؟ ميشال عون استقبل ذات يوم من حاول اغتياله في 12 تشرين. عانقه وحاوره وتصالحا. جعجع يرفض أن يسمع بأسماء الضحايا. على سبيل المثال لا غير، جميل أن يكتب جعجع في برنامجه الرئاسي عن رفضه عقوبة الإعدام. لكن هناك شابين رفيقين لجعجع، أعدمهما علناً، وبقرار عُرفي موقّع منه، وبحضوره شخصياً. لا لزوم لاعتراف هنا. لكن هل اعتذر من ذوي سمير زينون وغسان لحود؟ السلوك هنا معكوس. كأن الضحية جلاد مطالب بالاعتذار. حتى حبكت مع أحد معتّقي السياسة اللبنانية قوله: لقد تمكنت من إقناع سليمان فرنجيه بأن جعجع لم يقتل والده. لكنني عجزت عن إقناع جعجع بأنه لم يفعل!
ثم بعد الاعتذار يكون القرار للضحايا، تقول العدالة الدولية الانتقالية. إما بالعفو، وإما بفرض «جبر الضرر». بعدها تصير المصالحة كاملة، على اساس الحقيقة الكاملة. تماماً كما فعل مانديلا. طالما أن البعض يحب التشبه بالرجل، كما يتشبه آخرون بفؤاد شهاب في زمن الأشباه والشبهة. مانديلا كان مقاتلاً يوماً ما. لكنه لم يكن يوماً قاتلاً. بعد تحريره وتحرر وطنه، ماذا فعل؟ فرض معادلة كل الحقيقة أساس لكل العفو. غير أن لعنته كانت أن في عائلته من تورط بشبهة القتل. كانت زوجته ويني الشهيرة، من اتهمت بتصفية بعض من رفاقه وهو في السجن، في سياق شهوتها للسلطة. فحسم مانديلا الوضع سريعاً، وعلى قاعدة مصلحة الوطن. طلق زوجته وحفظ رفاقه وبلده وضميره …
هذا ليس نبشاً للماضي. لأنه ليس المطلوب الانتقام من جعجع. بل حل «مسألته». واستعادته عنصراً سلمياً في حياة وطنية سوية. بحيث لا يؤدي غيابه إلى إضعاف جماعته، ولا يؤدي حضوره إلى إلغاء أحد. وفق مبادئ العدالة الانتقالية، كما تنص عليها الشرعية الدولية اليوم. فيتم الانتقال من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، من الأمس إلى اليوم والغد. من دون ضروريات كهذه، لا يمكن استئصال العنف من قلب الجلاد ولا الألم من قلب الضحية. بل يكون تشجيعاً للأول على تكرار أفعاله، وتمادياً في سحق الثاني حتى نسف العدالة في المجتمع. إنه الحاضر إذن ما نبحث فيه في «مسألة جعجع». إنه المستقبل ما يحركنا.
علماً أن بعض خصوم جعجع في السياسة والأمن يذهبون أبعد في هذا السياق بالذات، يسألونك: متى انتهت حقبة العنف والدم عند جعجع أصلاً؟ مع الطائف؟ بعد 13 تشرين الأول وارتياحه من كابوس عون؟ طيب داني وإنغريد وطارق وجوليان قتلوا بعده. متى انتهى العنف إذن؟ بعد حكومة عمر كرامي؟ طيب كم طناً من الأسلحة والمتفجرات اكتشف الجيش لاحقاً في المستودعات السرية والمخابئ سنة 94؟ كلها من تركيبات جميل السيد؟ طيب إسألوا ميشال سليمان عنها. كان هناك يومها، ألا تصدقون ميشال سليمان أيضاً. متى انتهى العنف عند جعجع؟ بعد خروجه من السجن وخروج سوريا من لبنان؟ حسناً، متى قال للسفيرة الأميركية أعطوني السلاح وأنا أجند 5 آلاف مقاتل؟ هذا دليل على أنه لا يملك السلاح؟! إنما الأفعال بالنيات، كما النيات بالأفعال أيضاً. فلو لبّت سعادتها وسلمته السلاح يومها، هل كان مسلحوه جاهزين مدربين أم ماذا؟ متى انتهى العنف؟ سؤال يُسكته جعجع لو أنه يخرج إلى الضوء، في دوافع سياسته وفي شفافية حزبه وماله ومآله… وقد يقضي على كل ما قد يكون افتراء أو تجنياً أو حراماً في كل ما سبق، لو أنه يلتزم مبادئ العدالة الدولية الانتقالية، كما «مقتضيات التطلب الإنجيلي الكياني». ألم يكتب يوحنا «أن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إِلى النور، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة»؟.