ليست المرة الأولى التي يتناول فيها رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط قضية «التقسيم الجغرافي» لمنطقة الشرق الأوسط التي وضعها العقيد البريطاني مارك سايكس والديبلوماسي الفرنسي جورج فرنسوا بيكو والتي أدّت إلى «الاقتسام السياسي» لدول السلطنة العثمانية بين دولتَي الانتداب المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى في مطلع القرن العشرين. فقد بدأت هواجس جنبلاط في ما يتعلق بالحدود التي أنشأتها اتفاقية «سايكس بيكو» منذ تحوّل الانتفاضة الشعبية ضد نظام الطاغية الأسدي في دمشق في العام 2011 إلى حرب أهلية انخرطت فيها قوى «أصولية» مستجلبة من الخارج وحوّلت الانتفاضة عن مسارها السلمي، وكبرت عقب اعلان سقوط مدينة حمص بيد جيش النظام الأسدي والمعلومات التي سرت حول محاولات حثيثة لتغيير ديموغرافية المدينة من حيث «استجلاب» مواطنين «شيعة فرس» ليقيموا مكان سكان حمص الأصليين من السنة العرب بعد أن أحرقت قوات الأسد عمداً كافة السجلات العقارية للمدينة لإخفاء جميع الوثائق التي تثبت تاريخ المدينة العريقة وهويتها العربية الاسلامية.
توجّس جنبلاط من هذه المحاولات «الأسدية البعثية» والتي يبدو أنها كانت في إطار الخطة «الفارسية» لتمديد نفوذ «الثورة الاسلامية» في دول المنطقة، والتي تؤكّد ما أعلنه القائد السابق لـ «الحرس الثوري» الإيراني ومستشار الامام خامنئي الجنرال يحيى رحيم صفوي من أن حدود إيران امتدت لتصل إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط وتحديداً إلى جنوب لبنان في مواجهة إسرائيل، فرفع الصوت في إطلالات إعلامية عدة محذّراً من الأخطار التي بدأت تلوح في أفق المنطقة وفي مقدّمها خطر الحرب المذهبية العبثية التي بدأت «تكشّر» عن أنيابها والتي إن وصلت رحاها إلى لبنان لن تسلم منه طائفة أو مذهب، وعبّر عن مخاوفه في ردوده التي وُصفت بأنها «ساخرة» لكنها من نوع «اللبيب من الاشارة يفهم»، على مقالات صحافية غربية نشرها الكاتب الاسرائيلي يوري افنيري والصحافي البريطاني روبرت فيسك. غير أن التسارع المفاجئ و«المرعب» للأحداث التي جرت ولا تزال مستمرة في العراق، زاد من يقين جنبلاط بأن الحدود الجغرافية- السياسية التي رسمتها الاتفاقية الآنفة الذكر سقطت، أو على الأقل بدأت ملامح سقوطها ترتسم فعلياً، فجاء موقفه الأسبوعي في جريدة «الأنباء» أول من أمس بمثابة قرع جرس إنذار ودق ناقوس خطر يحمل أكثر من هاجس ويتضمّن أكثر من رسالة، لا سيما بدعوته اللبنانيين إلى «المحافظة على لبنان الكبير».
لا يختلف اثنان على أن جنبلاط من أكثر السياسيين في لبنان متابعة للقضايا الإقليمية والعالمية نظراً الى علاقاته المتشعّبة مع أهل السياسة والإعلام والثقافة في العالم، وأنه أمام كل منعطف سياسي خطير كان يتخذ القرارات التي يراها مناسبة رغم عدم «شعبيتها» بين أنصاره أو «حلفائه».
ويشدّد المقرّبون من جنبلاط على أن الاهتمام بالشأن الرئاسي لن يقلل من شأن الموضوع الاقليمي الخطير والذي يبدو فيه أن العراق سيدخل في أتون حرب مذهبية طاحنة ستؤدي في نهاية المطاف إلى تقسيمه وإسقاط حدود «سايكس بيكو» ومن ثم استكمال المشروع التقسيمي في سوريا حيث لـ «الداعشية» حضور ونفوذ وعلى تماس مع المنطقة التي سيطرت عليها «الداعشية» نفسها في العراق. ومن هنا فإن حرص جنبلاط على «لبنان الكبير» وكيفية «صيانة هذه البقعة بما تمثّله من تعدّدية وتنوّع وديموقراطية»، ومنع امتداد «الطموحات» التقسيمية إليه، والاسراع في تذليل كافة العقبات التي تحول دون انتخاب رئيس «مسيحي» معتدل في أسرع وقت ممكن أحد وسائل «الصيانة» المطلوبة.
لا يمكن استسهال ما حدث في العراق بين «تنظيم داعش» وحكومة نوري المالكي «الفئوية الفاشلة» في العراق، إذ أنها المرّة الأولى التي يعمد فصيل «ارهابي» إلى احتلال ارض والتمسّك بها خلافاً لما هو معروف عن عمل هذه المجموعات، والأهم هو تحوّل الصراع في العراق الى صراع مذهبيّ علني بين الشيعة والسنّة.
وبحسب محللين سياسيين فإن الانفتاح الجغرافيّ الواسع والمستجدّ الذي أعطى «داعش» مزيداً من العمق الاستراتيجي لانفتاح الأرض السورية أمامها، فهي ستسعى، وهي اليوم أقوى، الى احتكار الساحة السوريّة، الامر الذي قد يضرب كلّ مشاريع الاعتدال وسيشعل الساحة السوريّة أكثر فأكثر، ما يعني تداعيات سلبية حكماً على لبنان. ويضيف المحللون أنه إذا تدخّل «حزب الله» في العراق بعد سوريا لأي سبب كان، فهذا أمر سيزيد الاحتقان والتوتّر على الساحة اللبنانيّة بين السنّة والشيعة حكماً، علماً أن «أهل السنة» في لبنان لا يؤيدون «داعش» بل يمتعضون من إسقاط حقوق «السنة» في العراق، وتحديداً من عدم تمثيلهم السياسي الصحيح والإحباط الذي عانوا منه نتيجة سياسة المالكي المنحازة ضدهم.
غير أن المخاوف الاستخبارية من تسلّل «أنصار داعش» إلى لبنان وتحديداً إلى المخيمات الفلسطينية، وتشكيل «خلايا نائمة» قد تستيقظ حين تحين الساعة، يعني أن احتمالات دخول لبنان في أتون الحرب المذهبية الشاملة تزداد وتتوسّع رقعة المخاوف من أن تشمل خطط التقسيم لبنان، ومن هنا دعوة جنبلاط للمحافظة على «لبنان الكبير».
قال جنبلاط في موقفه الأسبوعي إن السجالات العقيمة حول السلاح غير الشرعي والتورّط في سوريا «سيتبيّن لاحقاً أنها قضايا ثانوية قياساً الى حجم المخاطر والتحديات المقبلة»، ولصعوبة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فالمطلوب فعلاً عودة إلى الواقع، ولعلّ استشهاد الرئيس نبيه برّي بكلام جنبلاط حول وضع إكليل على ضريحي سايكس وبيكو مؤشر فعلي على إدراك مبكر لحجم هذه المخاطر.
واللبيب من الإشارة يفهم …