لا يمكن إيجاد كلمات تعبّر عمّا يجري على امتداد المعمورة سوى «جنون العالم». قتلٌ ودمٌ ودمار، وآلة الحرب باتت أداةَ التخاطب الوحيدة، مجسّدةً عن حقّ شعارَ «لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص».
صورة العالم اليوم تؤكّد أنّ لغة العقل غائبة عن السمع، ومستوى ساسة العالم الأوّل والثاني والثالث، أصبح موحّداً ولا يتعدّى مستوى الصفّ الأوّل ابتدائي في مدرسة ساسة الأجيال السابقة.
في سوريا تتجلّى الصورة بملايين النازحين والمشرّدين في مخيّمات تفتقد أدنى حقوق الإنسان، وملايين الأطفال فقدوا حقّ التعليم والصحّة، ومُدنٌ سُوِّيَت بالأرض، وعَدّاد الضحايا توقّف بعد أن أهمل قادة العالم مسؤوليّاتهم تجاه التسويات السياسية. كيف لا يُنسى جنيف، وقد ذهب الجميع الى سويسرا مرّتين لتكريس الخلاف والتوافق على استمرار حمّام الدم.
في بلاد الرافدين، أُعلِنت الخلافة، وجحافل «المؤمنين» تستعدّ لخوض غمار «معركة القادسية» في نسختها الثانية، وذلك بعد أن غضّ قادة العالم الطرفَ عن الاختبار الأميركي في إعادة عقارب الساعة في أرض العراق إلى نحو 1500 عام الى الوراء. باختصار، نجحَ الاختبار في العراق في استنساخ المواجهة مجدّداً بين سعد بن ابي وقاس ورستم فرخزاد.
في منارة الشرق وعاصمة الثقافة العربية لبنان يلمع نجم «المتشدّدين»، وجيش يخوض مواجهات مع آلة قتل عابرة للحدود، والساسة لا يفكّرون سوى بسُبل فتح أبواب التفاوض معهم، والمضحِك المبكي، إعلان حفنة من المطلوبين بجرائم القتل والسرقة والإتجار بالمخدّرات عن ولائهم للجيش واستعدادهم للقتال إلى جانبه في عرسال، في وقتٍ تخرج الدلّوعات على شاشات التلفزة بلباس عسكري يشبه لباس «الجنرال جوكوف»، ورائحة عطورهنّ الباريسية تخترق أحدث تقنيات وسائل البثّ الفضائي، وتخترق الشاشات اليابانية لتصل إلى المشاهد أينما كان.
في فلسطين كالعادة، آلاف القتلى والجرحى سقطوا سهواً، وغزّة باتت ملهماً لصانعي مسلسل «باب الحارة»، «المناضلون والخوَنة على حَدّ سواء في انتظار عودة أبي عصام». في وقتٍ يبحث الساسة عن خطة للتهدئة إفساحاً في المجال أمام عمليات الدفن الجماعية ليس إلّا. نعم من واشنطن الى القاهرة البحث يجري عن وقفٍ مؤقّت لإطلاق النار وليس عن خطّة لمعالجة هذه المعضلة لعدم تكرارها.
في اليمن حاولوا قتلَ صالح، لم يُقتل صالح. أُخرِج صالح من السلطة ولم تنتهِ مدّة صلاحيته. في البحرين، كلّ شيء يجري بعيداً من الإعلام، لكنّ مصادر الأمم المتحدة تفيد أنّ كسرى يعدّ العدّة لغزو بلاد الشام.
أمّا في ليبيا فالقوم في الشرق يرفضون مبايعة عشائر الغرب، والحرب المعلنة تحمل شعار القضاء على «أزلام النظام السابق». أمّا ما يجري في واقع الأمر، فالله أعلم.
تونس تخرج من استحقاق وتدخل في آخر، في انتظار جيوش عُقبَة بن نافع، وعُقبَة واقفٌ عند حدودها ينتظر تفويضاً دولياً لدخولها، فلا معبر «رأس جدير» مفتوحاً، ولا جبل الشعباني في ولاية القصرين آمناً.
بعيداً من العالم الثالث، فإنّ مشاهد القتل والعنف الأوكرانية الآتية من وسط العالم الأوّل باتت تشبه إلى حدّ كبير الصوَر الآتية من العراق وسوريا وغزّة، في وقتٍ تنشغل عواصم القرار في الغرب بحزم العقوبات على روسيا، فيما تنشغل موسكو وحلفاؤها في البحث عن أساليب للردّ على تلك العقوبات.
أمام هذا المشهد، واستناداً إلى فلسفة مؤسّس التحليل النفسي سيغموند فرويد، فإنّ ما يجري في العالم هو الجنون في حدّ ذاته، والذي يرى غيرَ ذلك قد يكون العاقلَ الوحيد في عالمنا.