حاولَ الاجتماع الأمني الأخير في السراي تبريدَ بعض الرؤوس الحامية، والعودة من الانفعال إلى الواقعيّة، خصوصاً عندما تتقمَّص الحساسيات الشخصية مواقف عامّة تدَّعي الحِرص على البلد وأهلِه ومؤسساته ومقدّراته.
شعرَ رئيس الحكومة تمّام سلام في الآونة الأخيرة أنّ مواد الاشتعال كثيرة، وهي ليست موجودة في الشارع بمقدار ما هي موجودة بحماسة بعض الوزراء في ركوب موجات، واستغلال أوضاع، لتحقيق زعامة شعبيّة، أو لفتحِ صندوق الاقتراع قبل أوانه.
عمليّة الإمساك بالخيوط من أطرافها، مسألة مهمّة ومعقّدة، لكنّ الأهمّ هو السير حتى النهاية لكشفِ المستور، ومعرفة ما يُخطَّط. ظاهرةُ إقفال الطرق أصبحت في الآونة الأخيرة متنقّلة، وكلّ التمنّيات ألّا تصبح متفلّتة. بدأت تحت شعار التضامن مع الجيش، أو ممارسة الضغوط للإسراع في الإفراج عن العسكرييّن المخطوفين، وأخذت تنحرف بتوجّهات مخابراتيّة لاستغلالها في حسابات أخرى.
كان التبرير ممكناً لو كان هناك من تقصير، إلّا أنّ الإمكانات، كلّ الإمكانات، مُسخَّرة بحثاً عن نهاية سعيدة مشرّفة للجيش والوطن. والخشية، كلّ الخشيّة، أن تخرج التظاهرات من إطارها الوطني – العاطفي إلى شعاب الفتنة لتعمل على إذكاء نارها، خصوصاً أنّ الهشيم متوافر وبأصناف وألوان وأحجام قياسيّة.
هناك خشية من أن تصبح الاجتماعات الأمنيّة، أشبَه بالدوران في الحلقة المفرَغة، تفتقر إلى الوهرة والهيبة والقرار والسرعة في التنفيذ. لا يهتمّ المواطن بما يحصل في الصالونات أو الكولسات، لكنْ يريد أن يلمس حقائق على أرض الواقع.
رصيد الثقة يكاد ينفد تحت وطأة الأخبار الضاغطة، والممارسات المحتقنة. وضعُ عرسال خطير، والأخطر ما يحصل في محيطها. كيف تتمّ عملية الإفراج عن المخطوفين؟ وهل كانوا محتجَزين في عرسال أم خارجها؟ وإذا كانوا في الخارج كيف وصلوا إلى عرسال التي يُفترَض أن تكون في قبضة الأجهزة القادرة على أن تحصي الأنفاس؟
ما تشهده مخيّمات النازحين مخيف، ربّما تكون من حيث الشكل مخيّمات، إنّما من حيث المضمون أشبه بمعسكرات: أسلحة، خلايا نائمة وأخرى ناشطة، وتحرّكات مريبة إلى حدّ أنّها فقدَت الطابع الإنساني لتتنقّب الطابع الأمني المخابراتي الذي تُديره شبكات، وتُموّله دول لها مصلحة في أن تكون الساحة اللبنانية مكاناً مؤاتياً لتصفية الحسابات المتراكمة مع دول أخرى.
وتزدَهر ظاهرة إقفال الطرق، لتُعزِّز المناخ المتوتّر، مصحوباً بحَرق الإطارات، والترويج للإشاعات المغرضة، والتعرّض للمقامات والرموز الدينيّة، وكلّها من الحواضر المستوردة، تتولّاها شبكات متخصّصة في الترويج وخلق الذرائع، ورفع الشعارات بهدف الدفع بالمجتمع نحو المنزلقات المهلكة.
والوصفة الصادرة عن السراي الحكومي واضحة، وتقول إنّ المعالجات لا تكون بالتدابير الأمنية الاحترازية فقط، بل في السياسة، ولا يوجد في لبنان خطاب سياسي هذه الأيام، بل خطاب طائفي، مذهبي، فئوي، كيدي، يحضّ على التفرقة، أكثر ما يوحي بالألفة، ويساهم في تعميم الحرائق أكثر ممّا يساهم في إطفائها.
وحدَه رئيس مجلس النواب نبيه برّي حافظَ على البوصلة، وحفظ الإتجاه، قال كلاماً في ذكرى الإمام المغيّب موسى الصدر، مقدوداً من مقالع الشهامة الوطنية الصافية، رسمَ خريطة الطريق، واستنهضَ الهمم، وحذّرَ من الشطط ونبشَ في ذاكرة الميثاق والصيغة، وأكّدَ المعادلة الذهبيّة «إذا كان يهمّنا البقاء، فلا بدّ من الحفاظ على الشركاء».
صحيح أنّ لبنان مقصد الأمم، لكنّ المهم ألّا يصبح ألعوبةً في يد الأمم، وهذه مسؤولية المسيحييّن والمسلمين معاً، وهم لا يحتاجون إلى ابتكارات جديدة في هذه المرحلة المصيريّة للحفاظ على العيش الواحد في إطار التنوّع.
هناك العرف، الميثاق، الدستور، القوانين المَرعيّة، وهناك الجيش الضامن الذي لا يحتاج إلى سلاح بمقدار ما يحتاج إلى معنويات ووحدة صفّ متراصّ خلفَه. وفي استقبال طائرة الشحن العسكريّة الأميركيّة التي حطَّت بمطار رفيق الحريري قبل أيام، قال مستشار عسكري: «مهمّةٌ هي الطلقة، ولكنّ الأهم تصويب الهدف، فهل اتّفق اللبنانيون على تحديده؟!».