الوجه الآخر لقول كلاوزفيتز الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى هو أن التفاوض استمرار للحرب بوسائل أخرى. ومن المبكر توصيف ما حدث في القاهرة بأنه انهيار للمفاوضات غير المباشرة بين الوفد الفلسطيني والوفد الاسرائيلي عبر الوسيط المصري. فالخروج من المفاوضات أو التهديد بقطعها وإعطاء أمر للوفد الاسرائيلي بمغادرة القاهرة هو تاكتيك تفاوضي وجزء من عملية التفاوض. والمسارعة الى القصف الجوي الاسرائيلي على أطراف غزة واطلاق صواريخ من غزة على أطراف اسرائيل هي اشارة مزدوجة الى أن أي طرف لم يقرر بعد قطع الطريق على معاودة التفاوض.
لكن ما تصطدم به المفاوضات هو الإصرار على اتفاق هدنة يضمن التوصل الى نتائج حاسمة بعد حرب لم تكن حاسمة. فكل طرف يريد الهدنة بشروط المنتصر في الحرب. وليس في العدوان على غزة سوى مزيج من الخسائر الملموسة والأرباح السلبية. حكومة نتنياهو ذهبت الى الحرب لتحقيق أهداف عسكرية من دون أهداف سياسية، لأنها أرادت منذ البدء اضعاف حماس وليس اسقاط سلطتها خوفاً من الفوضى. وحماس اندفعت في مواجهة العدوان لتحقيق أهداف سياسية تتعلق بفك العزلة عنها والحصار عن غزة، من دون أن يكون هناك امكان لتحقيق أهداف عسكرية مثل تحرير أرض بالمقاومة.
وما حدث ان اسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية، وبالتالي واجهت خسارة استراتيجية. فلا هي استعادت قوة الردع أو تمكنت مما تسميه كي الوعي. ولا هي تمكنت من وقف الصواريخ. ولا كانت خسائرها في صفوف الجيش قليلة، بحيث اكتشفت ان الدعوات الى اعادة احتلال غزة هي أحلام قديمة ومغامرة خطرة حديثة. أما حماس، فانها ربحت الرهان على الصمود ومنع القوات الاسرائيلية من تحقيق أهدافها، وان كانت الخسائر كبيرة بشرياً ومادياً: آلاف البيوت المدمرة وأكثر من ألفي شهيد وعشرة آلاف جريح. لكن من المستحيل ان تدفع الثمن المطلوب لتحقيق أهدافها السياسية، وهو نزع أسلحتها أو أقله منع غزة من حيازة أي صاروخ.
واذا كان ضرب حكومة المصالحة بين فتح وحماس من أهداف نتنياهو، فان تأليف الوفد الفلسطيني الموحّد الى المفاوضات حاملاً مطالب الاجماع الوطني هو أفضل ردّ. والمفارقة ان الجزء الأساسي من الأهداف السياسية التي يريد الوفد الفلسطيني تحقيقها هو ما سلمت به اسرائيل في اتفاق أوسلو قبل ٢١ سنة وكان في اليد: المطار والميناء والمعابر المفتوحة وبدء التنمية الاقتصادية في غزة. أما الآن، فان اسرائيل التي أغلقت كل شيء وفرضت الحصار ترفض ذلك عملياً، وان ربطته نظرياً بنزع سلاح المقاومة وتنظيم رقابة دولية على المطار والميناء والمعابر.
لكن قواعد اللعبة تغيّرت.