Site icon IMLebanon

حرب الأنفاق وصابونة القضية الفلسطينية!

ما هي الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الانهيار الأمني الذي أدى الى انفجار النزاع بين “حماس” وإسرائيل للمرة الثالثة منذ صِدام 2008؟

يُستَدَل من مراجعة الحقبة السابقة، التي قادت الى المواجهة المسلحة، أن إستقالة المبعوث الاميركي لعملية السلام مارتن انديك كانت المؤشر السياسي الأول على فشل وساطة الوزير الاميركي جون كيري.

المؤشر الثاني ظهر في مقررات مؤتمر “هرتسيليا” الرابع عشر، وخطورة التوصيات التي حددها المشاركون. وهو المؤتمر الذي ضم أكثر من مئة شخصية سياسية وعسكرية وأكاديمية، حاولت تقويم الظروف الاقليمية والدولية، ومدى تأثيرها على مناعة اسرائيل وحصانة مؤسساتها.

ومن أبرز المقررات التي ساهمت في زيادة حدة التوتر، بين قادة “حماس” وحكومة بنيامين نتنياهو، كانت الوقائع التالية:

أولاً – خطاب مستشار الأمن القومي السابق يعقوب عميدرور، وفيه يحدد التهديدات الخطيرة التي تواجهها بلاده. وهي تشمل التهديد الايراني، حيث تسعى طهران الى امتلاك السلاح النووي بواسطة التحايل على إتفاق جنيف. كما تشمل وجود خمسين ألف صاروخ من مختلف الأحجام موزعة بين “حزب الله” في لبنان… وفصائل “حماس” في قطاع غزة. واعترف أنها من النوع الذي يصل الى أقصى مدينة في اسرائيل.

وتطرق في خطابه أيضاً الى النشاط المسلح الذي تقوم به وحدات مقاتلة في سيناء تنتمي الى ثلاثة تنظيمات هي: الاخوان المسلمون… وداعش… والقاعدة. وقد شجع عميدرور، في نهاية خطابه، وزير الدفاع موشيه يعالون على ضرورة الاسراع في مقاومة هذه المخاطر قبل إستفحالها وإزديادها.

ثانياً – رئيس أركان الجيش الاسرائيلي، بيني غانتس، تحدث عن حالات عدم الاستقرار في غالبية بلدان الشرق الأوسط، الأمر الذي يفرض على جيش الدفاع إعلان حال الاستنفار والتأهب لمقاومة الظروف الطارئة.

ويُستَخلص من مجمل الخطب والمحاضرات التي ألقيَت في مؤتمر “هرتسيليا” أن لهجة الاستعداد لحرب مفاجئة كانت السمة الطاغية على المقررات.

بعض المحللين يُرجع أسباب النزاع المباشرة الى حادث خطف وقتل ثلاثة شبان اسرائيليين… والى إحراق فتى فلسطيني لا يتجاوز عمره 16 سنة. وحقيقة الأمر أن اسرائيل باشرت عملية الاستفزاز عقب إعلان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس نهاية الانقسام، وتشكيل حكومة إتحاد وطني. وكان بهذا النبأ يعرب عن تفاؤله بولادة وزارة جديدة برئاسة رامي الحمد الله تضم خمسة وزراء من قطاع غزة.

ولكن ولادة “حكومة التوافق” لم تنلْ رضا الوزير الاميركي جون كيري، بدليل أنه إتصل بالرئيس عباس ليعبّر له عن قلقه من مشاركة “حماس”.

ومع تخوفه من ردود فعل اسرائيل، تمنى كيري أثناء التحدث مع عباس بأن يعمل على تخفيف وقع هذا النبأ على نتنياهو، ويقنع خالد مشعل بضرورة الاعتراف باسرائيل، وإحترام الاتفاقات الموقعة، ونبذ أساليب العنف. وكان من المنطقي أن يعترض أبو مازن على هذه الشروط التي تخالف المبادئ التي قامت عليها “حماس”.

رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو إنتقد بشدة “حكومة التوافق الوطني”، مؤكداً أن الوزارة المصغرة للشؤون الأمنية والسياسية ستجتمع لاتخاذ خطوات عقابية ضد السلطة الفلسطينية.

واللافت أن نتنياهو طلب من وزير الدفاع شن غارتين على قطاع غزة قبيل إعلان الرئيس عباس عن تشكيل حكومة التوافق، أي الحكومة الملتزمة إعادة توحيد دولة فلسطين تحت إدارة سلطة واحدة، تتبنى برنامج دولة على حدود سنة 1967.

وكان واضحاً من توقيت الهجوم الاسرائيلي على غزة أن نتنياهو قرر استخدام الضغط العسكري لشل قدرة “حماس” على مواصلة إطلاق الصواريخ. كما قرر، في الوقت ذاته، عزل المقاتلين عن مظلة السلطة الفلسطينية بحيث يتسنى له القيام بانسحاب سريع بعد اداء مهمة التفتيش والتنظيف.

وحذر وزير الدفاع الاسرائيلي موشيه يعالون من إحتمال إستمرار الحرب مدة تزيد على الأسبوعين في حال رفضت “حماس” الاستجابة للضغوط الاقليمية والدولية. خصوصاً أنها تملك ترسانة كبيرة من الصواريخ البعيدة المدى والمقدرة بألف صاروخ. وأعلن المراقبون أن الأيام الثلاثة الأولى شهدت سقوط خمسمئة صاروخ على مختلف المدن الاسرائيلية. وفي اليوم الرابع تدخل وزير الخارجية الاميركي جون كيري ليعلن وقوف بلاده الى جانب اسرائيل، وينتقل الى المنطقة بغرض التوسط لوقف النار.

الرئيس محمود عباس هاجم مجلس الأمن في كلمة متلفزة، مطالباً الأسرة الدولية بضرورة وقف العدوان على قطاع غزة، وتوفير الحماية والأمن للأبرياء والمدنيين. وبعد جلسة طارئة، أصدر رئيس مجلس الأمن، سفير رواندا يوجين غسانا، بياناً صحافياً دعا فيه الأطراف المعنية الى تطبيق مقررات 2012، وإعتماد المبادرة المصرية سبيلاً لوقف النار.

الصحف المعارِضة في اسرائيل بدأت هذا الأسبوع تكتب منتقدة اداء الحملة العسكرية التي صوّرت نتنياهو كسياسي مغامر وفاشل. ولمّحت في إفتتاحياتها الى احتمال انسحاب القوات، أو تخفيف أعدادها، بعد الفظائع التي إرتكبتها بحق سكان غزة.

كذلك تطرقت وسائل الاعلام الاميركية الى الأذى الاقتصادي الذي سببته واشنطن بفرضها الحظر على الرحلات الجوية المتجهة الى مطار بن غوريون. وكانت “حماس” قد إعترفت بضرب حدود المطار كإنذار بأنها قادرة على تدمير برج المراقبة ومدارج الاقلاع والهبوط، في حال استمرت اسرائيل في القتل والتدمير.

وفي تحذير غير مسبوق وجهه رئيس “الموساد” الى حكومة نتنياهو يُعلمها فيه بأن مفاعل ديمونا قد تعرض لقصف صاروخي مصدره قطاع غزة، طلب تركيز قوة الردع الممثلة بـ “قبة الحديد” على النقب من أجل حماية المفاعل النووي في ديمونا.

مساء الأربعاء الماضي، عقد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ “حماس”، مؤتمراً صحافياً في الدوحة، تحدث فيه عن المرحلة الثانية من معركة النضال الطويل. وأكد أن الحركة لم تُهزَم بفضل صلابة أهل غزة… وأن قدرة “حماس” العسكرية لم تُمتَحَن بعد.

وكرر أمام الصحافيين الشروط المقبولة لاستئناف الحوار:

أولاً – الوقف الفوري للعدوان على غزة، براً وبحراً وجواً.

ثانياً – فك الحصار الاقتصادي وضمان حرية الملاحة والصيد حتى 12 ميلاً بحرياً، وتشغيل ميناء غزة.

ثالثاً – إلغاء جميع الاجراءات والعقوبات الجماعية في حق سكان الضفة الغربية، وإعادة الممتلكات الخاصة والعامة التي تمت مصادرتها.

رابعاً – وقف سياسة الاعتقال الاداري المتكرر ورفع العقوبات عن الأسرى.

خامساً – إعادة إعمار ما دمره العدوان المتكرر على قطاع غزة.

وأنهى حديثه بالتجاوب مع طلب الدول التي تحدث باسمها أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، والداعية الى وقف النار لأسباب إنسانية. وقال إن “حماس” وافقت على هذه الدعوة ولكن اسرائيل رفضت الالتزام بها.

وكان من المُتفَق عليه بين كيري ونتنياهو أن يتحدث الوزير الاميركي عن الخطوات التي حققها في مجال الجهود الرامية الى وقف النار. ويبدو أن رئيس الحكومة الاسرائيلية لم يكن مقتنعاً بحصيلة تلك الانجازات، بدليل أنه تراجع عن قرار عقد مؤتمر صحافي مشترك، واكتفى بالتقاط صورة المصافحة!

والتفسير الذي قدمه المحللون الاسرائيليون مرتبط بالموقف الاستراتيجي الذي إعتمده نتنياهو في مختلف المعارك السياسية والعسكرية التي خاضها. وهو الموقف الذي وضعه هنري كيسينجر أثناء الحرب ضد كمبوديا، وإصراره على التفاوض من أجل السلام على وقع القنابل. أي من موقع القوة بحيث يستطيع تحسين شروطه.

وبما أن هذه الشروط لم تتوافر خلال الأيام الماضية، فقد إتهم نتنياهو المؤسسات الأمنية – الموساد وامان والشاباك – بأنها قدمت معلومات مضللة وخاطئة عن ترسانة “حماس” ومعنويات الشعب الفلسطيني في غزة. ومن المتوقع أن يجري مناقلات شاملة في حال تحولت الحرب الى ورطة سياسية يصعب الخروج منها بقرار مشرف.

والمعروف عن نتنياهو أنه تبنى فكرة مقاومة الارهاب منذ مقتل شقيقه الأكبر في عملية عنتبي. ثم طوّر هذه الفكرة، وحولها مؤسسة دائمة في الولايات المتحدة تحمل إسمه. وقد أصدر أول كتاب عنها سنة 2003 بعنوان: كيف تحارب الدول الديموقراطية الارهاب العالمي؟

وبين العمليات التي يفتخر أنه حققها بنجاح كانت عملية نسف 13 طائرة مدنية في مطار بيروت (28 كانون الأول 1968). وكان في حينه يعمل في فرع مقاومة الارهاب الفلسطيني داخل “الموساد”.

وعليه، تتوقع واشنطن المزيد من القرارات المتهورة التي يتخذها في سبيل إنقاذ سمعته السياسية. خصوصاً أن خالد مشعل لا يستطيع التنازل عن شروطه المكتوبة بدماء أكثر من سبعمئة شهيد وآلاف الجرحى.

وأذكر في هذا السياق أنني كتبت عن آخر لقاء تم بين صدام حسين وياسر عرفات. وذكرت في المقالة أن صدام إنتقد تراجع أبو عمار في بعض الأمور المبدئية. وقال له أثناء النقاش: يا أبو عمار، أخشى على القضية الفلسطينية من الذوبان لكثرة ما استعملتها الأنظمة العربية. لقد أصبحت تلك “الصابونة” الكبيرة المعطرة… بَرْوَة صغيرة.

بعد صدور المقالة، اتصل بي من دمشق خالد مشعل، ليؤكد أن هذه القضية ستظل في حجمها الطبيعي، وأن الفلسطينيين لن يسمحوا بأن تذوب قضيتهم المقدسة مهما قست عليهم الظروف والأحداث.