لم يكن خطف الشبان الاسرائيليين الثلاثة، ثم قتلهم في ظروف غامضة، عملاً مدبراً ربما، لكن الحرب التي تلته شكلت بالنسبة الى اسرائيل وحركة «حماس» واطراف اقليميين فرصة ملائمة لفتح ملف قطاع غزة واعادة رسم موقعه في خريطة الصراع الدائم في المنطقة، بعدما وصلت الاوضاع فيه الى طريق مسدود على كل صعيد.
وكعادتها، لجأت اسرائيل الى اللغة الوحيدة التي تجيدها وهي القتل الذي تسخر له كل قوتها العسكرية المتفوقة بأضعاف مضاعفة على قوة خصمها، ولا يعنيها في ذلك التفريق بين عسكري ومدني، او بين راشد وطفل، فكلهم في سلة عدوة واحدة.
واذا كان قصد حكومة نتانياهو من شن حرب انتقامية شديدة العنف على القطاع، خلط الاوراق داخل غزة نفسها، بعدما فوجئ بعض حلفاء «حماس» بعملية الخطف ونتائجها، وبعثرة الاجماع الفلسطيني الهش الناشئ حديثاً بين السلطة الوطنية في رام الله والسلطة المتمردة في القطاع، والتوصل الى ترتيبات جديدة مع الحركة الاسلامية تماثل تلك التي توصلت اليها مع «حزب الله» بعد حرب 2006 وارست هدوءاً على الحدود مع لبنان، فإن نتائج العمليات العسكرية لا تظهر حتى الآن ان باستطاعتها فرض شروطها.
وقد دفع القتال الغزيين الى لملمة صفوفهم، والفصائل الى التغاضي عن التباينات بينها، وفرض تضامناً بين الجناحين الفلسطينيين المنفصلين سياسياً وجغرافياً. وأدى ذلك الى تدفيع اسرائيل ثمناً بشرياً واقتصادياً تعتبره «باهظاً» بمقاييسها، لكنه لا يقارن بالطبع بآلاف الضحايا الفلسطينيين وبحجم الخسائر المادية الهائلة التي خلفها العدوان حتى الآن.
وكانت اسرائيل أوضحت منذ بداية عدوانها ان هدفها ليس القضاء على سلطة «حماس»، فهي تحتاجها ورقة تستخدمها في تعاملها مع طروحات التسوية السلمية الأوسع، سواء لشق الصف الفلسطيني او للتذرع بخطرها على أمنها.
اما بالنسبة الى «حماس» فشكلت الحرب مناسبة لاعادة التذكير بالوضع المعلق الذي تعيشه غزة، والحاجة الى اخراجها من عنق الزجاجة، بعد خلافها مع سورية، ثم مع مصر، وسقوطها في عزلة سياسية وجغرافية دفعتها الى معاودة التقرب من السلطة. ولهذا كان بين الشروط العديدة التي وضعتها للموافقة على وقف اطلاق النار فتح المعابر، والسماح بتشغيل ميناء بحري ومطار في القطاع، ووضع معبر رفح مع مصر تحت اشراف دولي، ونشر مراقبين دوليين عند الحدود مع اسرائيل. أي بكلام آخر اعتراف اسرائيل والعرب والعالم بـ «دولة حماس» العتيدة، بانتظار ان تمد الحركة نفوذها الى الضفة الغربية.
أما الطرف الاقليمي الذي وجد في الحرب فرصة لاستعادة مشروطة لحركة «حماس»، فهو ايران التي تعتبر ان اسلاميي غزة اخطأوا باختيارهم معسكرا مناوئاً لحليفها السوري بشار الأسد، ولهذا جاءت الاتصالات من «حزب الله» ومن طهران لتذكر الحمساويين، وهم تحت القصف، بالحلف «المربح» الذي كان قائماً مع ايران وسورية، ولتعرض عليهم العودة التدريجية الى صفوف «الممانعة» الاقليمية بدلا من اقتصار «ممانعتهم» على الساحة الفلسطينية.
وبالطبع سيتصاعد التضامن الخطابي مع غزة خلال الايام المقبلة مع احتفال ايران وملحقاتها بـ «يوم القدس»، لكن عودة التحالف ستظل رهناً بقبول الحركة الاسلامية التراجع عن التزامها إطارها السياسي الاوسع، اي جماعة «الاخوان المسلمين»، وقبولها بنوع من الانفصام في تعاملها مع المسائل الاقليمية.
يبقى ان هذا التنافس على تحديد «انتماء» غزة لم يسفر حتى الآن عن نتائج حاسمة لأي طرف. وقد يتم التوصل الى وقف لاطلاق النار خلال ايام، لكنه لن يكون سوى تمهيد لجولة قتال جديدة، اياً يكن خيار «حماس».