Site icon IMLebanon

حروب الثأرٍ القديم

 

لطالما قلنا (كما سوانا) ان نشوء (أو «إنشاء) الكيان الصهيوني وازدهاره وتوسعه وترسخه تزامن إلى حد كبير وقيام الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي: الأول (أي اسرائيل) تأسست بالقتل والاغتصاب (الأرض) وبالعنف وبتآمر الدول الكبرى، والثاني (الدكتاتوريات) بالانقلابات الدموية والقتل واغتصاب السلطة. كيانان استمد كل منهما «قوته» و»صيرورته» من الآخر. اسرائيل حَمَت على طريقتها تلك الأنظمة (بعد حروب) وهذه الأنظمة حَمَت على طرقها الكيان الصهيوني. كالآنية المستطرقة. ولطالما قلنا إن زوال هذه الأنظمة ستهدد مصير اسرائيل، لأنها تفقد بذلك «مُعينها» و»حليفها» (المضاد) وعدوها (الضروري).

وعندما اندلع الربيع العربي، قلنا (وسوانا) ان هذا الربيع سيكون خريفين: خريف المرحلة الدكتاتورية وخريف «الموسم» الصهيوني، متجاوزين ما كان تبثه هذه الأنظمة من أن الربيع العربي، من صنائع «اسرائيل» !

من هنا يمكن استشفاف تمنع كثير من الدول الداعمة أصلاً اسرائيل عن مساعدة هذه الثورات. والمثال الأدمغ ما حدث في سوريا وليبيا: في الأولى منع انكفاء الولايات المتحدة وأوروبا عن تقديم مساعدة للشعب السوري في ثورته على الطغيان، ظهور الحركات الاسلامية المتطرفة من «النصرة» وصولاً إلى «داعش» حتى اللحظة التي أدركت هذه المنظمات الإرهابية حدود الجولان المحتل.

هنا انفجرت الصيحات الغربية: أمن اسرائيل في الجولان مهدد. مصير اسرائيل مهدد. وأصاب الهلع العالم من احتمال ادراك هذا «الإرهاب» مدنه، من أميركا إلى أوروبا… إلى روسيا.

كأنما تحققت «نبوءة» بعض القادة الصهاينة في بداية الربيع العربي السوري عندما أعلنوا «أن سقوط النظام السوري كارثة على اسرائيل». أوباما تململ في قيلولته وكذلك أوروبا. وها ان الجيش السوري الذي يحمي الاحتلال الصهيوني في الجولان، ويحفز ضَمَّه إلى كيانه وتهويده ينهزم في مهمته هذه. حدود الجولان اليوم على تماس مع خليط الجيش الحر، وداعش والنصرة. انتكست المهمة التي أوكلت الجيش السوري منذ 1974 لحماية الاحتلال. لم يعد النظام السوري قائماً، ولا سيادته المعدومة، ولا قواه العسكرية ولا دوره. اسرائيل وجهاً لوجه مع افرازات التي تمخض عنها الواقع هناك والتي أدت إلى غلبة الاتجاهات المتطرفة، بفضل دعم اسرائيل وأوباما للنظام، وضعف المساعدات العربية للثورة في انطلاقاتها الشعبية.

وهذا ما سهّل تدخل ايران عبر ميليشياتها وحرسها الثوري، بقوة لدعم النظام، بواجهة مذهبية. فحزب الله نفذ إرادة ولاية الفقيه في التدخل في سوريا تحت يافطة مذهبية سافرة، هي اليافطة الشيعية الفارسية، لحماية المقامات المقدسة وعلنيةَّ في محاربة الأكثرية السنية(80 بالمئة من الشعب السوري). وغَضّت اسرائيل الطرف، بل وتواطأت معطية الأضواء الخضر للحزب «الالهي»، كما فعلت تماماً أميركا.

هذا سيناريو مشابه لما حصل في العراق عندما اسقطت الولايات المتحدة نظام صدام حسين أول نظام سني يسقط منذ ألف عام وسلمت احد أكبر البلدان العربية إلى إيران تسليم اليد باليد. المؤامرة على سوريا وقبلها أريدت ان تكون مماثلة للمؤامرة الأميركية الإيرانية (وخلف ذلك كله روسيا بوتين). حزب الله «اللبناني» (اسماً وتذكره نفوس) يقتل في سوريا تحت راية سليماني، والمالكي في العراق ينكل بالسنة تحت راية خامنئي.

هنا بالذات ، مفاجأة التاريخ. والتاريخ مليء بالمفاجآت ودارت الأمور على غير ما خُّطَ لها على ورق السيناريوات المعروفة. من جحيم الواقع السوري ومن جرائم النظام، ومن جنونه ومن مذهبيته تفجرت من قيعان الجغرافيا والمجتمع والماضي والتاريخ جحيمٌ أخرى. والجحيم تنجب الجحيم. جحيم المذهبية في سوريا وتواطؤ اسرائيل (أو موافقتها) وكذلك أوباما (خضوعاً لإرادة اللوبي الصهيوني في أمريكا) وتخاذل أوروبا… اطلعت «نقيضها» أو الأحرى شبيهها: الإرهاب الاسرائيلي + الإرهاب البعثي + إيران + سوريا انتجت ارهاباً آخر من جبلتها: ذاتها: النظام السوري يقتل ويدمر على الهوية، وصنائعه داعش والنصرة، تقتل على الهوية. هنا القتل بالأدوات «الحضارية» (وهو مقبول حضارياً وأخلاقياً وجماعياً وفنياً) وهناك القتل بالسيف وقطع الرؤوس والاعدامات «الشرعية» منتوجات البضائع ذاتها استفردت الساحات: في العراق، وفي سوريا وفي ليبيا وصولاً إلى اليمن. وضمائر الربيع العربي السلمية الديموقراطية طُمِست لتعلوها وحول الدم الإرهابية. إرهاب يقارع ارهاباً في وجه ارهاب حزب الله والحرس الثوري وشتات الميليشيات المرسلة من الشيشان (بأمر من بوتين) والخارجة من السجون السورية في وجه الشتات «الدعوي» الديني الاسلامي الوافدة من جهات الأرض الأربع. وإذا كانت المعارضة السورية الأصلية الشعبية كما انطلقت من درعا قد همشت إلى حد كبير لامتناع أميركا وأوروبا عن تسليحها عندما حول النظام المواجهة السلمية إلى حرب دموية، فالنظام السوري قد هُمِش ايضاً. صارت «المعارضة» السلمية «تفصيلاً» في غمرة طوفان جيوش «الفتوحات» الدينية المتطرفة وكذلك نظام آل الأسد. وبات حزب الله أقل من تفصيل هناك. بل كأنه صار ذكرى يومية لنقل نعوش مقاتليه الذين يسقطون هناك. وباتت «ايران» «أقل من لاعب» وانهزمت في العراق شر هزيمة. الذين فجروا الثورة السلمية في سوريا صاروا في الخلفية لضعف امكاناتهم، والذين اعلنوا حرباً مسلحة عليها، صاروا في خلفيته الخلفية. وها هي اسرائيل، احدى الجهات الاساسية التي دعمت المنحى الارهابي لإيران والنظام السوري لقمع الثورة السلمية، باتت أيضاً، وجهاً لوجه، مع «جحيم» الإرهاب! في العراق هزائم مدوية للجيش العراقي الذي ركبه الأميركيون لدعم نظام ايران فيها، حتى وصلت هذه الجحيم إلى أربيل والبترول والموصل. «الارهاب» اكتسح العراق، ثم سوريا (ربما ليبيا غداً أو اليمن) ثم هزَّ «اطمئنان اسرائيل». لم يعد هناك مكان آمن لا للولايات المتحدة ولا لأوروبا ولا لإسرائيل. ظاهرة جديدة. لا حدود. لا اتفاقيات دولية. لا سايكس بيكو، لا اتفاق وقف اطلاق النار بين النظام السوري واسرائيل، فبات الجولان كأنه ضمن الأرض المحروقة بالبراكين. أميركا أوباما منكفئة في انعزاليتها. واسرائيل منهكة بأوضاعها الداخلية، وحربها الأخيرة على غزة. إذاً لا امان حتى في تل أبيب. ولا القدس ولا مطار بن غوريون. ولا في المستعمرات الحدودية، ولهذا، كأن كلاماً قديماً قد انتهت صلاحياته . الحدود منتفضة على الحدود. الفوضى تأكل الأخضر واليابس. القتل مُعلن بلا هوادة. وتغيير «الأمم» ظاهر بإشاراته. كان الربيع العربي يسعى إلى تغيير الأنظمة فوصلنا إلى تغيير الأمم والحدود والناس والتواريخ. «أبو كاليبس» الآن، لكوبولا، عنوان صغير إزاء ما يحدث في عالمنا. الأحياء في عداد الأموات والأموات (أحفاد الماضي) قاموا من قبورهم، ليحكموا الأحياء!

(أين أنت يا دانتي و«الكوميديا الإلهية»!) تجربة الجحيم. نعم! لكنها جحيم آتية من جحيم أخرى. فالارهابيون «داعش» و«النصرة» هم من خريجي الأنظمة الدكتاتورية واسرائيل وروسيا وبعض الأنظمة العربية: جاؤوا من «أمكنة» مجهولة، فحولوا الأرض أرضاَ مجهولة. جاؤوا من انساب هي خليط من سلالة القتلة (النظامان البعثيان في العراق وإيران.. ومن التواريخ العربية المظلمة) ليُعيدوا تجارب «آبائهم الديكتاتوريين القتلة، لكن بطرائق أخرى. النظام السوري استخدم الأسلحة الكيماوية والذبح على الهوية، وانتزاع حلقوم كل من يصرخ بسقوطه وفتح سجونه. لمئات الآلاف وادار «حفلات» التعذيب والتمثيل بالجثث وقتل الأطفال وارتكاب المجازر الجماعية واسقاط البراميل المتفجرة، وتدمير البلاد بالطيران والارهاب الآخر حذا حذوه. (أو ليس هذا ما حدث في جورجيا، وفي الشيشان: والآن في أوكرانيا: تحية إلى بوتين!) . الارهاب الداعشي لم يضف الكثير إلى ما ابتكرته مصانع الارهاب البعثي في سوريا: بل عمل على التفاصيل وعلى المشهدية: النظام السوري الغى الحدود بين لبنان وسوريا على امتداد أربعة عقود. والارهاب الداعشي، يحاول الغاء حدود بين العراق وسوريا. النظام السوري اغتال (بواسطة عملائه مباشرة) بالرصاص العديد من السفراء ومن رموز وطنية معارضة، بتهم الخيانة والعمالة وتهديد الأمن القومي، وداعش اعدم بالصوت والصورة مصوراً أميركياً، وجنوداً سوريين ومناضلين من الجيش الحر. النظام السوري خطف 15 ألف لبناني قبل ثلاثة عقود وما زال مصيرهم مجهولاً، وخطف مناضلين ومفكرين وكتاباً وسياسيين وكذلك داعش والنصرة خطفت الراهبات من دير معلولة. كل هذا كأنه بات قديماً. فهل يمكن أن نعمِّم هذه «القولات» اليوم ازاء ما يجري في سوريا والعراق! ربما! فالتاريخ يُعيد نفسه وإن «بطريقة غامضة» أو «ملتبسة». وكذلك الجغرافيا والشعوب والموتى والأحياء. فهتلر وستالين وبول بوت وماوتسي تونع لم يموتوا بل بُعثوا في مرشدي النظام الايراني والدكتاتوريين العرب. (وحديثاً في روسيا البوتينية). ستالين كان علماً رائداً لحافظ الأسد. وهتلر معلماً رائداً لصدام حسين. وماوتسي تونغ معلماً ملهماً لخامنئي. هذه المدرسة المتوارثة بالاقتباس انجبت داعش وقبلها شاكر العبسي، وحزب الله وبشار الأسد والمالكي… وبوتين، فهؤلاء الورثة الشرعيون في سلالة متسلسلة، قد تكون بداياتها التاريخية مع هولاكو وتيمورلنك وجانكيز خان وأقرانهم. غريب كيف ينجب التاريخ «نماذجه» المتشابهة المتوأمة «بحكمة» عالية. ولهذا يمكن أن نجد ان هؤلاء الورثة وأخوانهم وأخواتهم حملوا كثيراً من ارث الماضي على قدر ما خانوا كثيراً من ارث المستقبل. أو فلنقل الغوا الحدود بين الماضي والمستقبل لصالح الأول، وعادوا لرسم حدود جغرافيات إمَّحت أو تشوشت: كأنما ارثهم، اليوم، متشابك، متداخل بين «الوفاء» للموتى (الماضي) وبين صوغ الحاضر والمستقبل على شاكلة الماضي.

أترى حروب اليوم في عالمنا العربي (بعد ضعف الربيع العربي لا موته) هي حروب ثأر وانتقام. كأنما جاءت كل جهة بأمير انتقامها: اسرائيل تثأر من العرب وفلسطين لأنها هُزمت واستعيدت القدس مع صلاح الدين الأيوبي. وها هي تريد اعادة تكوين تلك المرحلة بالانتقام، والتشفي والقتل وزرع المستعمرات لاستعادة (أرضها الموعودة). بوتين (خريج المخابرات السوياتية) يريد الثأر للاتحاد السوياتي من الذين اسقطوه (بل ويريد ايضاً استعادة المجد القيصري الارثوذكسي) في استعادته «الحرب الباردة، دور روسيا، وأول الغيث قضم جيورجيا وغزو اوكرانيا» (باعتبارهما جزءاً سابقاً من الاتحاد السوياتي) . ايران تثأر من هزائمها امام العرب، في الماضي والحاضر (عندما انتصر عليها صدام حسين) باسترجاع «امبراطوريتها» السليبة والانتقام من العرب والسنة. وحزب الله (من جنود ولاية الفقيه) يريد ان ينتقم من كل أهل النظام اللبناني السابق الذي يرى انه ابعد الشيعة عن السلطة. (وهذا غير صحيح) بل ويذهب بعضهم (ومنهم السيد حسن نصرالله في خطبه قبل أكثر من عقدين من انه يريد استرجاع كسروان الشيعية أصلاً!). النظام السوري من حافظ إلى بشار الأسد يريد الانتقام من الأكثرية السنية في سوريا لأنه يعتبر انها همشت الطائفة العلوية. المالكي ينتقم من الأقلية السنية لأنها حكمت العراق ألف عام! التيولوجية الايرانية المتشيعة الزرادشتية، تعود إلى جذور الأزمة السياسية بين الصحابة والتي ابعدت الإمام علي عن الخلافة، وقتلت الحسين . انتقام جديد لقصة قديمة. (هذا هو تحديد الانتقام). داعش تريد ان تنتقم من زوال الخلافة الاسلامية فترفعها شعاراً لجنونها. الإخوان المسلمون ينتقمون من التنويريين والنهضويين لأنهم (بنظرها) همشوا الإمبراطورية الاسلامية (وخصوصاً وان نشوء الإخوان المسلمين جاء بعد سقوط الخلافة العثمانية وتسلم العلمانية الحكم في تركيا). الأكراد يريدون أن يثأروا من الأنظمة العربية لأنهم قسمت أرضهم وشعبهم بإعلان دولتهم في كردستان.

انها حروب الثأر «القبلية» والأثنية والمذهبية والأيديولوجية… الماضية. وعندما نعود إلى كتابي «نهاية التاريخ» و«صدام الحضارات» كأنما نعود إلى كتاب واحد من جزئين وقعهما هنتنغتون وفوكوياما: نهاية التاريخ واستعادة الحرب الحضارية «الماضية».

من هنا، تتداخل في حروب اليوم (ونظنها آيلة إلى الزوال بشعاراتها ودمائها) ، الأفكار القديمة، والمجازر القديمة وقطع الرؤوس والارهاب والتكفير والسلفية بأنماط جديدة متطورة، من السيوف إلى الكيماوي، ومن الخناجر إلى الطيران، ومن الأسلحة البيضاء إلى البراميل المتفجرة ومن المدافع البدائية إلى أكثر الأسلحة تطوراً وهكذا تمتزج الرؤى والشعارات في خليط غرائبي يلغي الحدود بين الأرض والسماء وبين الآلهة وبين الجنة والجحيم وبين التقدم والماضوية والعصرية والتخلف… انه الانتقام، يأتي من الماضي بلبوس جديد أو يأتي من الحاضر بلبوس الماضي.

الآن، كل التواريخ مطوية ومنشورة وكل الجغرافيات والحدود مفتوحة ومغلقة. وكل المحرمات مسموحة، ومل المسوخ منبعثة من كهوفها ومصانعها مفلتة: انها حرب الحروب ، تختزل وتختزن كل جروح الماضي، لكم من دون افق للمستقبل.

الماضي الأسود يصبغ السماء والأرض بالعتمة! والارهاب. بحيث لم يعد بين المتحاربين من هو شرير وصالح، بين عادل وظالم.. بل انقسمت النفوس بشيزوفرانيا رهيبة يتملكها كل شيء: الشيطان والملاك! القاتل والقتيل! الشهيد والمجرم.

انه عصر الانتقام من التاريخ!

بول شاوول