كلام السيّد فحص سيّد الكلام
«حزب الله» خارج السمع
في غضون أسبوعين قرأت نصّين للعلامة السيد هاني فحص نشرتهما جريدة « المستقبل» اللبنانية. وهما عبارة عن رسالتين موجهتين إلى قيادة «حزب الله».
لا أخفي مقدماً بأنني من المعجبين جداً بكتابة العلامة المناضل السيد هاني فحص أسلوباً ومضموناً، في السياسة والأدب والشعر. ولكن ما زاد فضولي لقراءة تينك الرسالتين هي المسافة الزمنية القصيرة التي فصلت بينهما، الأولى في 24/07/2014 والثانية في 6/8/2014، لأكتشف أن السيد هاني قد استشعر الخطر الكبير مما يدور حولنا وعندنا من أحداث خطيرة تكاد تفتح أبواب جهنم على الجميع من الموصل إلى عرسال. فراح يلحّ بالوسيلة المتاحة على قيادة «حزب الله» كفريق أساسي معني بتلك الأحداث، ويشد انتباهه إلى المنزلق الخطير الذي تتجه إليه عجلات مركبته والذي ينذر بأوخم العواقب على الحزب والطائفة ولبنان بعدما تعطّلت على ما يبدو لغة الحوار المباشر بينهما.
عرفت السيد هاني من بُعد، منذ سبعينات القرن الماضي مناضلاً عبر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى مع الإمام السيد موسى الصدر ومدافعاً عن حقوق المحرومين من مزارعي التبغ. وهو من نشأ على حبْكِ أوراق شتولها، وتربى على زوّادتها رغم ضحالة عطائها في بلدته الجنوبية «جبشيت». وعرفته داعماً لنضال العمال الذين اعتمر بهم حزام البؤس حول مدينة بيروت.
وكان السيد هاني ولم يزل نصيراً للقضايا القومية العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين. وكنا نقرأ للسيد هاني مقالاته ونتابع نشاطاته ووساطاته الوطنية العربية والإسلامية وهو يقوم بكل تلك الأدوار الجليلة من دون ادعاء. فكان له احترامه وتقديره ولم يزل عند أركان القيادة الإيرانية ومرجعياتها، والمرجعيات السياسية والإسلامية في العراق، والبحرين والمملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية… الخ.
وعرفت السيد هاني عن قرب في منابر الحوار الإسلامي – المسيحي ومنتديات الحوار الوطني والقومي وله من الأبحاث والمقالات ما يؤلف أفضل البرامج السياسية والقيمية للدولة العادلة الديمقراطية التي يحلم بها كل ذي عقل ومروءة.
وتربطني الآن بالسيد هاني صداقة حميمة وقناعات سياسية وطنية وقومية وأخلاقية وإنسانية مشتركة. وبعمق ثقافته وشموليتها عرف السيد هاني كيف يجعل من كل مسيحي مسلم ومن كل مسلم مسيحي، ومن الدين زاداً للأخلاق والتسامح وليس سيفاً مصلتاً على رقاب غير معتنقيه ومن دون تفرقة بين فرقة وأخرى وبين مذهب وآخر أو بين علماني ولاهوتي.
ولو تسمح لي مساحة الكتابة في هذا المقال، لجف حبر قلمي قبل أن أنتهي من الحديث عن مواهب وفضائل وكفاءة السيد هاني فحص العلامة، المناضل والمفكر المبدع.
وبالعودة إلى موضوع رسالتَي السيد هاني إلى قيادة «حزب الله» لفتني، كم كان السيد، جريئاً، شفافاً ومسؤولاً في مخاطبة قيادة الحزب. لقد جاء توقيت المخاطبة في لحظة سياسية حرجة مع بلوغ المشهد السياسي على امتداد الساحة العربية ذروة التوتر المذهبي، وطغيان العصبية فيها على العقل، واقتراب الجميع من حافة الهاوية.
لقد حَمَلت الرسالتان إلى «حزب الله» كل معاني الود والتقدير، وأصدق التعابير عن الشراكة بالمسؤولية عن مصير الحزب نفسه وعن مصير الطائفة والوطن أيضاً… والسيد لم يتملّق الحزب في مخاطبة قيادته، ولكنه كان من الضالعين في قول الحقيقة للصديق تحديداً.
فالصديق من صدَقَك وليس من صدّقك، ولذا كان ناقداً صادقاً لسياساتٍ وممارساتٍ اعتقد بأن «حزب الله» قد تمادى في سلوكهما وتكبّد وكبّد اللبنانيين الشيعة وتالياً لبنان الوطن خسائر بشرية ومادية باتت تنذر بخراب البصرة إذا لم يجرِ تداركها.
اتصلت بالسيد هاني، فأثنيت على موقفه، وسألته عن ردّ فعل قيادة «حزب الله»، فأجاب، على ما يبدو أنهم خارج السمع.
مؤسف الأمر، أنا أيضاً كالسيد هاني تجمعني صداقات وعلاقات مع عدد من قيادات وكوادر الحزب يعود بعضها إلى لحظة تأسيس الحزب في العام 1982. ولم أبخل يوماً في تقديم النصح لهم بالسر والعلن، لكن لم ألقَ دائماً الآذان الصاغية.
وأنا أيضاً كالسيد هاني ابن بيئتي وإن كنا من مدرستين أيديولوجيتين مختلفتين، هو من المدرسة الدينية وأنا من المدرسة العلمانية. إلا أنه تجمعنا قضية واحدة ونتشاركها مع «حزب الله» ومع العديد من الفصائل والقوى اللبنانية، وهي مقاومة العدو الصهيوني حتى آخر النفس، وأستشعرُ معه كل خطرٍ داهمٍ على أهلنا وعائلاتنا وأبناء جلدتنا.
وفي مسيرة المقاومة محطات ومحطات، والجدير ذكره في هذا المجال، هو أن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية كانت قد دحرت قوات الاحتلال الصهيوني عن كل الأراضي اللبنانية من بيروت وحتى ما عُرف لاحقاً بالشريط الحدودي خلال الفترة الممتدة من 16 أيلول عام 1982 وحتى العام 1985.
والجدير ذكره أيضاً أن عمليات المقاومة الإسلامية ضد قوات الاحتلال قد نشطت بدءاً من العام 1987، وفي المقابل بدأت تتقلص نشاطات فصائل جبهة المقاومة الوطنية وعملياتها منذ العام 1989 بفعل قرار سوري أصبح معروفاً من الجميع، إلى أن اضملحت في حقبة التسعينات من القرن الماضي وانفرد بها حقاً حزب الله.
وعلى أهمية النتائج الباهرة التي حققتها عمليات المقاومة الإسلامية ضد قوات الاحتلال وعملائه في الشريط الحدودي، إلا أن خطراً بدأت تستشعره قيادة حزب الله نفسها وكذلك كل المخلصين لعمل المقاومة من مسألة تطيُّفها واحتمال تحولها الى عامل قسمة بدل أن تكون عامل جمع وتوحيد لجهود ومواقف المكونات المختلفة للمجتمع اللبناني.
وتداركاً لذلك الخطر أقدم «حزب الله» على تأسيس سرايا المقاومة بهدف ضم عناصر من طوائف أخرى لتحميها وطنياً، إلا أن الاستجابة لم تكن على قدر المطلوب.
وكما السيد هاني وآخرون من الحريصين على المقاومة، تقدم المناضل الوطني الكبير الشهيد جورج حاوي مطلق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، بمبادرة إلى الأمين العام لـ«حزب الله» سماحة السيد حسن نصرالله في العام 1998 وكنت برفقته، وطرح فيها على سماحته تشكيل مجلس أعلى للمقاومة ليشكل بدوره مظلة وطنية لها يضم الأمناء العامين ورؤساء كل الأحزاب والفصائل التي ساهمت في المقاومة إضافة الى من يريد من القيادات المسيحية. وكان الشهيد جورج حاوي قد أخذ موافقة النائب والوزير السابق الراحل نسيب لحود والنائب والوزير السابق جان عبيد ليكونا عضوين في ذاك المجلس.
كان جواب سماحة السيد حسن للشهيد جورج حاوي صريحاً وواضحاً: لكي تأخذ هذه المبادرة مسارها العملي يجب أن تحظى مسبقاً على موافقة القيادة السورية…!؟
الأمر الذي لم يحصل طبعاً… وكانت بعد ذلك محطتا عامي 2000 و2006… و«حزب الله» أضحى فريقاً أساسياً في المعادلة اللبنانية لا يمكن لأحد أن يتجاهله أو يتجاوزه أو يقلل من أهمية دوره.
إلا أن التطورات اللاحقة كشفت مدى انخراط «حزب الله» في مشروع إقليمي يتخطى حدود المصلحة الوطنية اللبنانية، بعدما كان الحزب قد تجاوز وثيقته التأسيسية في العام 1985 التي حملت مشروعه لإقامة الدولة الإسلامية في لبنان، إلى الالتزام بدستور اتفاق الطائف والإقرار بلبنان كوطن نهائي لكل أبنائه.
وجاء انخراط الحزب طرفاً في الحرب الأهلية السورية تجاوزاً إضافياً لمرجعية الدولة وتسعيراً إضافياً للصراع المذهبي الممتد من الموصل إلى حمص إلى درعا والقلمون وعرسال…
وكانت لسياسة الحزب تلك نتائج مؤلمة على الحزب نفسه وعلى الطائفة الشيعية وعلى لبنان. ولا يكفي أن تكون قيادة «حزب الله» وحدها مقتنعة بما تقوم به وتسوق الحجج للدفاع عنه وتتجاهل كل تلك الأصوات الحريصة على المقاومة وعلى دورها الحقيقي ضد الاحتلال الصهيوني والحريصة على وحدة المجتمع اللبناني ومصير ومستقبل لبنان في مواجهة الكنتنة والتفتيت والفدرلة الزاحفة على المنطقة والتي لا تصب إلا في مصلحة الكيان الصهيوني، لأن تداعيات تلك السياسة كما أشار السيد هاني في رسالتيه لا تنحصر بدائرة الحزب وحده وإنما تتعداه إلى جسم الطائفة الشيعية برمّته وإلى الوطن بكل أبعاده.
وكما ألمح السيد هاني في رسالتيه هناك فئة وازنة من خيرة أبناء الطائفة الشيعية تشاركه القناعة والهواجس. فلماذا لا تبادر قيادة «حزب الله» إلى الاستماع لآرائهم أفراداً وجماعات، بعدما تخطت القضية مصالح الحزب إلى مصلحة الطائفة والوطن؟
فالداعشية كما عرفناها هي فلسفة إلغاء الآخر المختلف بأبشع الأساليب الإجرامية، لذا حري بمن يتصدى للداعشية أن يستمع ويتحاور مع المختلف معهم وأن لا يتجاهلهم خاصة إذا كانوا من أبناء جلدته لرسم خريطةِ طريقٍ تقودنا جميعاً إلى إقفال كل النوافذ على رياح التكفير، وتحصين بلدنا من تداعيات العواصف المحيطة بنا، عبر إطلاق عجلات الدولة ومن خلال إحياء دور مؤسساتها والكف عن تعطيلها.
نداءاتُك لن تذهب سدى يا سيد هاني، فإن لم تجد صداها اليوم، فهي عبرة للتاريخ…
شفاك وعافاك الله، وشفى الله لبنان من مرضه العضال «الطائفية»، بعودة الجميع إلى كنف الدولة، الحضن الدافئ لكل أبناء الشعب ولأي جهة انتموا. ولنا في تجربة عرسال ما يشي بأن الدولة وأجهزتها هي الحامي الفعال والوحيد من التطرف والتكفير والداعشية بكل ألوانها.
() كاتب وإعلامي