Site icon IMLebanon

حصار مزدوج

حصاران مفروضان على المجتمع العربي: واحدهما فيزيائي مادي مركزه غزة، وفي إطاره ترتكب إسرائيل مجزرة بل محرقة بشرية؛ والآخر مفروض على العقل العربي، في إطاره ترتكب مجزرة ضد الوعي، بل في إطارها يحدث الانتحار العربي الجماعي.

الحصار الأول خارجي تقوم به إسرائيل والغرب الداعم لها؛ والثاني داخلي يفرضه العرب على أنفسهم. يتعلق الحصاران ببعضهما، إذ هما يتزامنان، وكل منهما يفرض علينا وعياً معيناً.

حصار غزة إبادة جماعية للشعب الفلسطيني، وحصار العقل العربي فعل تدمير للوعي العربي، كما يظهر من الأفعال المشينة التي ترتكبها «داعش» في الموصل. لا نستطيع القول إن الحدثين منعزل واحدهما عن الآخر، بل إن تزامنهما يبعث على الاعتقاد بتزامن التوقيت والأهداف والبرمجة. نحن معتادون على الحرب على غزة. أما كارثة الموصل فهي أمر جديد على المجتمع العربي كتشريد المسيحيين وقتل من يخالف الرأي، وإلغاء التاريخ بهدم الكنائس والمساجد والمرابط وتماثيل شعرائنا، كل ذلك يشير إلى أن المراد أن نصير شعباً من دون تاريخ، مقطوع الرأس وأن تحارب إسرائيل شعباً عربياً من دون جسد ومن دون قوام.

إن ظهور «داعش» الفجائي والمريب وتوسعها المشبوه السريع في سوريا والعراق يبعثان على الشك في أنها نمو طبيعي لمجتمع مريض. هم سم زعاف يداوى به مجتمع مأزوم؛ مجتمع مأزوم بدوله وأنظمته السياسية وعقائده الدينية. فقد المجتمع أصبح مبرراً بل ضرورياً. دين يتفكك وينهدم. يحل مكانه دين جديد غاضب من نفسه ومن الكون، لا يستطيع قبول نفسه ولا الكون بما فيه خالقه؛ ناهيك بقبول الآخر المختلف الذي هو جزء من هذا المجتمع منذ بداية تكوينه، وقبل ذلك. لا اعتبار فيه للدين التقليدي المتصالح مع نفسه ومع الآخرين.

في القرن التاسع عشر، ومع ظهور الهزيمة أمام الغرب، رأى العرب الفجوة في التقدم والتحديث، وشرعوا بإصلاحات اعتبروها ضرورية للتجاوز. أما الآن فهناك دين يصاغ من جديد يرفض الثقافة الغربية، وهي الثقافة العالمية، وأكثر من ذلك. هذا الدين الجديد يرفض مجتمعه وينكر تاريخه ويسيطر على حاضره؛ والأرجح أنه لن يستطيع صنع مستقبله. يستخدم تكنولوجيا الغرب الصلبة بمعنى أدوات القتال، والأرجح أن تكنولوجيا الغرب الرخوة، برامج الهندسة الاجتماعية هي التي تستخدمه.

مهما كانت النتائج في غزة، وسيقال أن النصر هو أن إسرائيل لم تحقق أهدافها، وأن النصر هو في الصمود، صمود المجتمع، لكن الوعي الجديد الناتج عن الدين الجديد الذي يصاغ لحكم الموصل والرافض للانخراط في العالم، والرافض لكل اختلاف، والقاتل لكل مختلف، سوف يبني تركيبته الفكرية على الاعتقاد أن كل انعزال عن العالم، وكل رفض للاختلاف هو النصر. النصر في صمود الذات ضد الآخر. لكنها ذات غريبة على هذا المجتمع، مصطنعة، قصيرة النَفَس، فاقدة الروح، مفتقرة إلى الإنسانية. وتعتبر كل ذلك صلاحاً. وعيان متشابهان يعبران عن بنية فكرية واحدة: هي الصمود في الهزيمة المرتكزة على فكرة ضرورة الاختلاف عن العالم، وأن في الحفاظ على الاختلاف صموداً.

حصاران: واحد مفروض علينا؛ وواحد نفرضه على أنفسنا. معروف أن الإمبريالية الرأسمالية تسيطر على هذا العالم وتقرر ما يجري فيه. من دون هذا المفتاح المفهومي لا نستطيع أن نفهم. لكننا لا نستطيع أن نواجه «المخططات» بهذا الوعي الخالي من الانتماء والذكاء. الانتماء لشعوب هذه الأمة؛ والذكاء في صياغة وتطوير أساليب المواجهة. لا نستطيع ذلك ونحن نحاصر أنفسنا بوعي مريض لا يؤهلنا إلا لتبرير الحصار المضروب علينا.

حاصر حصارك، كما قال محمود درويش.