تشكّلت حكومة المصلحة الوطنية على توازنات الواقع المتفجّر في سوريا وتداعياته على الواقع اللبناني.. فكانت مبادرة اليد الممدودة التي أنتجت حكومة المصلحة الوطنية الإئتلافية.. وتجاوزت في بيانها خطوطاً حمراء كانت القوى السياسية قد سجنت نفسها بها أحد عشر شهراً.. إذ انتهى الأمر بجملة وزارية بدلاً من البيان الوزاري رغم التحفظات والإستثناءات الأمنية والسياسية في ما يخص الصراع الدائر في سوريا منذ ثلاثة أعوام ونيف..
أدّت التفاهمات السياسية حول تشكيل الحكومة إلى إضفاء شيء من الإستقرار الأمني بسبب نزع فتيل الصراع الدائر في البقاع وطرابلس والذي كان امتداداً للنزاع في سوريا.. فكان الأمن الذي نعم به لبنان خلال الأشهر الثلاث الماضية هو أمن سياسي بامتياز.. صنعته تسوية تشكيل حكومة المصلحة الوطنية.. فسارع اللبنانيون إلى اعتبار أنهم قد تجاوزوا ما يدور في المنطقة وبدأت الأحاديث عن الأمن المثالي في لبنان ودعوة الأشقاء العرب لقضاء فصل الصيف في ربوعهم..??
جاء الإستحقاق الرئاسي وسلسلة الرتب والرواتب لتضع حداً لوظيفة تفاهمات حكومة المصلحة الوطنية.. التي لم تستطع أن تؤمّن إنتخاب رئيس الجمهورية ولا إقرار السلسلة.. ومع دخولها مرحلة الفراغ الرئاسي بدأ الحديث عن كيفية إدارة الفراغ وعن صلاحيات مجلس الوزراء ورئيسه باستخدام صلاحيات رئيس الجمهورية.. وذلك نتيجة لاعتراضات متنوعة.. وبدأ البحث عن صيغ مختلفة وغير دستورية لإدارة جلسات مجلس الوزراء وجدول الأعمال..
أحدث التّطوّر العراقي خللاً كبيراً في توازنات النزاع السوري وانعكاسه على لبنان.. وبدأت مرحلة جديدة في إدارة النزاعات القائمة في كلّ من سوريا والعراق مع الأخذ بعين الإعتبار طبيعة الإصطفاف الدولي في العراق.. والذي جاء سريعاً وحازماً عكس النزاع السوري.. مما أدّى إلى تغيير قواعد الإشتباك وميادينه وأطرافه.. فأصبحت المنطقة كلّها موجودة بشكل مباشر في النزاع العراقي.. مما أطاح بتوازنات حكومة المصلحة الوطنية وبدأ السعي لإنتاج تسوية جديدة لضمان إستمرار الحكومة ولو بتصريف الأعمال..
بدأ مسلسل الكشف عن الخلايا الإرهابية مع مداهمات فنادق الحمراء وتفجير ضهر البيدر ثم إلى الأخبار المسرّبة عن إستهداف هنا واستهداف هناك.. وكان آخرها ما شهدناه في اليومين الماضيين حيث انتحرت التّسوية الحكومية من على صخور الروشة وفنادقها.. وبدأنا مرحلة من الشغور الأمني والسياحي ومغادرة الأشقاء لبنان.. وظهر جلياً أنّ لبنان عاد إلى مرحلة خطوط التّماس السياسية والأمنية..
إنكفأ اللبنانيون إلى ثقافتهم الحربية العريقة.. وبدأوا بإتّخاذ التّدابير الذاتية وتحديد الطرقات الآمنة.. وسقطت أوهام الإستقرار لأنّ اللبنانيين لديهم خبرة في الحرب الأهلية والنزاعات المباشرة وليس في محاربة الإرهاب.. الذي فشلت الولايات المتحدة وحلفائها في محاربته في أفغانستان والعراق.. والسلاح الوحيد الذي حقّق شيئاً من الإنجاز هو عملية الصحوات التي خاضتها عشائر العراق عام 2007 وإستطاعت أن تحدّ من تحرّك الإرهاب وفعاليته.. غادر الأشقاء العرب لبنان.. وغادر اللبنانيين الأمان.. وبدأ ما يشبه الصحوات لدى القبائل السياسية في لبنان..
يدور الحديث الآن عن الإدارة الإعلامية واللوجيستية لمواجهة الإرهاب في لبنان.. واللبنانيون خبراء بما هو حقيقي وما هو إعلامي.. مما جعل القبائل السياسية اللبنانية المجتمعة في مجلس الوزراء تحاول لملمة ما تبقى من وعي وحسن تقدير لما يدور في المنطقة من نزاعات.. وأنّنا في زمن الكوابيس الكبيرة وليس في زمن الأحلام والطموحات.. وأنّ غاية الغايات هي الخروج بلبنان من هذه النزاعات الفتاكة بأقل ما يمكن من الأثمان..
تفقّد المسؤولون الأمنيون مواقع التفجيرات وقصدوا المستشفيات وأكّدوا على عزم الأجهزة الأمنية على مواجهة الإرهاب.. وبالتعاون مع مصادر المعلومات التي كشفت للبنان عن وجود الإرهابيين في فنادق العاصمة.. مع العلم أنّ القادة السياسيين والأمنيين يعرفون بأنّ مواجهة الإرهاب تحتاج إلى تماسك مجتمعي ووطني غير متوفر الآن.. وأنّ ضحايا الإرهاب الحقيقيين هم قوى الإنتاج والعمل التي أمّنت دورة الحياة في ربوع لبنان الذي دمرته سياسات المغامرة والإرتجال..
كان الأولى بالقادة السياسيين والأمنيين زيارة الفنادق الشاغرة وفرص العمل الضائعة والاقتصاد المنهار والرعب الذي بات يهيمن على الناس.. والذي سينعكس إنكفاءً كما كان يحصل مع كلّ جولة عنف على مدى أربعين عاماً.. إذ أصبح العنف ثقافة والموت ثقافة والإنكفاء ثقافة.. وإنّ ثقافة السلم الأهلي التي بدأت بالتّكوّن في لبنان مع رفيق الحريري تعرّضت مباشرةً للإغتيال السياسي في العام 98.. وإنّ أحد أصحاب المعالي الوزراء هو أحد ضحايا إغتيال تلك الثقافة.. وهو يعلم تماماً أنّ الأمن ثقافة والسلم الأهلي ثقافة وليس تدابير أمنية.. ثم جاء الإغتيال الشخصي في العام 2005.. وما تلاها من سنوات أُصيبت فيها ثقافة السلم الأهلي بالصّميم.. وكان آخرها الإنقلاب على نتائج انتخابات 2009.. وكلّنا يعلم أنّه في السّنوات الثلاثة الماضية كان في لبنان خطوط تماس في طرابلس وأكثر من مكان..
إلتأم مجلس الوزراء بالأمس في جلسة مطوّلة أقرّ خلالها جدول الأعمال شكلياً وطال الحديث عن مجلس الوزراء في زمن الشّغور.. ولم تسلّم الأطراف بالانسياب الطبيعي.. وتمسّكت بالتّدبير الإستثنائي.. وكان لنزلاء الفنادق الإرهابيين الحضور الأكبر في مجلس الوزراء.. مع إدراكهم بأنّ التّلهّي بالحديث عن جنس الملائكة سيطيح بالقبائل السياسية في مجلس الوزراء أمام قبائلهم الخائفة والمضطربة.. فاستحضر السادة الوزراء تجربتهم في قيادة المحاور والنّزاعات.. مدركين عجزهم بأنّ ما يدّعونه في الإعلام لا علاقة له بالواقع الخطير والمتفجر في فنادق لبنان وغير فنادق لبنان.. وأنّ توازنات سوريا ذهبت أدراج الرياح.. وأنّ المنطقة بأسرها الآن تتصرف على إيقاع توازنات العراق الداخلية والعربية والإقليمية والدولية والأيديولوجية والقومية.. بعد أن أُبلغوا من مراجعهم الإقليمية والدولية بأنّ ما كان قبل العراق لم يعد قائماً ما بعد العراق.. وأنّه لا مجال للإستعراضات والمهارات والأوهام.. وأنّهم أعجز من أن يتحمّلوا تبعات الإنخراط بالنّزاعات الكبرى والدامية..
إنّ لبنان الآن أشبه بأيام المحاور وخطوط التّماس.. أيام لجنة سباق الخيل الأمنية.. وأنّ على القبائل السياسية العمل على وقف إطلاق النار السياسي واحترام وقف إطلاق النار.. فما كان من السادة الوزراء الخبراء بخطوط التّماس إلا أن شكّلوا مجلساً للأمن السياسي لإدارة البلاد من خلال مجلس الوزراء الذي تحوّل منذ الأمس إلى مجلس حكم إنتقالي.. بانتظار الخلاص الوطني.. من خارج لبنان..