سرعة انتشار حواجز الخطف في لبنان ظاهرة لافتة.
كلما وجدت أيادي الشرّ والفتنة أن الفرصة سانحة «لاصطياد البشر»، تقام حواجز هنا تقابلها حواجز هناك، ويبدأ «الصيد»، الذي يكون دائما مثمرا وثمينا.
سبب «السيولة» في انتشار الحواجز، والسهولة في إيجاد الضحايا، هو الاختلاط الطائفي في معظم المناطق اللبنانية. قليلة هي المناطق التي تسكنها طوائف خالصة.
حوادث الخطف التي شهدها البقاع في الأيام الأخيرة مؤلمة وخطيرة، ولكنها تبقى صغيرة بالمقارنة مع الأحداث الجسيمة في لبنان والمنطقة. ورغم صغرها النسبي، فهي تفتح الباب أمام سؤال كبير: هل يسمح الاختلاط الديموغرافي بين الطوائف بقيام نظام فيدرالي طائفي في لبنان؟
السؤال ليس خارج الموضوع، بل هو يأتي ضمن وقته وفي سياق التطوّرات الآنية الكبرى في المشرق العربي.
بعد التطوّرات العراقية، لم يعد حديث الفيدرالية في المشرق العربي من المحرّمات. كان كل طرح فيدرالي يعتبر نوعا من الخيانة، لأن الفلسفة السياسية والدستورية السائدة تنبثق من المفاهيم القومية المتشدّدة، التي أعقبت قرونا من نظام الخلافة.
التحوّل العراقي السريع من المركزية المفرطة إلى الانقسام المذهبي، بعد قيام كردستان المستقلة، جعل الفيدرالية مطلب سنـّـة العراق، حرّاس المركزية وقاعدة حزب البعث وصدّام حسين، أي أن شعار الفيدرالية انتقل من النقيض الكردي إلى النقيض العربي. مستقبل الأزمة السورية ما زال غامضا حتى الآن، ولكن قد يُطرح نوعٌ من فك الارتباط بين المناطق عندما يأتي زمن المصالحة والحلول.
هذه الطروحات سهلة في العراق، حيث الانقسام الجغرافي بين المناطق الطائفية قائم أصلا، ما عدا بعض المناطق القليلة المتنازع عليها، والتطوّرات العسكرية للحرب السورية سهّلت سلوك هذا الطريق.
ومن غير المستبعد أن يكون لبنان هو المحطة المقبلة للأفكار الفيدرالية. فإذا كانت الفيدرالية تطرح الآن في بلدان عربية مجاورة كانت قبل حين تحرّم الاعتراف باستقلالية الجماعات وخصوصيتها، فالفيدرالية في لبنان لها رنّة مميّزة وتاريخ وجذور.
ولكن تحقيق الفيدرالية في لبنان أمر مستحيل دون براكين من العنف وأنهار من الدم. ما من أفكار خلاقة تستطيع تجاوز عقبة الاختلاط الطائفي أمام قيام نظام فيدرالي يحقق فصلا جغرافيا بين الطوائف. «تنظيف» المناطق اللبنانية في الواقع الديموغرافي القائم أبعد مما يتصوّره الخيال.
في جبل لبنان القديم كان الخليط الطائفي أكثر بساطة والسكان أقلّ عددا، ومع ذلك فقد أثار نظام القائمقاميتَين مشكلات معقدة حول القرى والمناطق المختلطة وأوضاع الأقليات في كل قائمقامية. والتجربة التي استهدفت فصل المسيحيين عن الدروز، بقصد تحقيق الاستقرار، انتهت إلى انفجار العنف بشكل أسوأ من المرحلة التي سبقتها.
لبنان اليوم، ديموغرافيا، أكثر تعقيدا ممّا كان عليه لبنان الصغير. انضمّت إلى الكيان طوائف ومناطق جعلت فيدرالية المناطق الطائفية ضربا من المستحيل، ونشأت بيروت الكبرى، ومدن، تحوّلت إلى مركز للنشاط الاقتصادي فاستقطبت معظم سكان البلاد.
من المهمّ تسليط الضوء على هذه المسألة لأن فكرة الفيدرالية ما زالت حلما مستحيلا يراود البعض، وثانيا لأن لبنان مرآة المنطقة، سبّاق في استيراد توجّهاتها وتياراتها، حتى وهي في طور التكوين.