Site icon IMLebanon

حلّ الأزمة اللبنانية هل يكمن في تغيير النظام السياسي؟

سام منسى

كلما تصاعدت النيران من حول لبنان، يتردد السؤال كيف يمكن حماية هذا البلد من تمدد الحروب إليه، فيما تبدو غالبية اللبنانيين من سياسيين ومواطنين غير مدركة حجم الأخطار المحدقة به. البلد بالنسبة إلى البعض في آخر سلم أولوياته، فيما البعض الآخر لا يزال يعتقد أن هناك مظلة دولية أو دولية إقليمية قادرة على حمايته.

في المشهد الإقليمي، تستمر المجازر المجانية في حصد المئات من القتلى وآلاف الجرحى من دون ردود فعل على مستوى الحدث، سواء في سورية أو العراق أو غزة أو ليبيا. والمستقر من بلدان المنطقة يجلس على فوهة بركان وقوده تخلّف سياسي واجتماعي واقتصادي، لا يعلم إلا الله متى ينفجر. أما في المشهد الدولي، فالاتحاد الأوروبي متقوقع أكثر على نفسه خوفاً من رياح التطرف التي تهب عليه، والمارد الأميركي يتصرف وكأنه عاد إلى قمقمه ليتسلى بورقة النووي الإيراني، والمتنمر الروسي يبقى، على رغم أن براثنه مؤلمة، نمراً من ورق، لا سيما بعد الاختراق الأوكراني حديقته الخلفية. مشهد، يبدو العالم فيه وكأنه أصبح متفلتاً من أية ضوابط وسقوف وقواعد وقيم، أحداثه أكبر من رجالاته.

هو عالم دون شرطي، سواء كان هذا الشرطي عادلاً أو مجحفاً.

ما الدافع إلى هذه المقدمة السوداوية؟ إنه حالة النكران التي يعيشها الوسط السياسي اللبناني كما غالبية اللبنانيين، إضافة إلى الاستمرار في اعتماد سياسة خلق مشاكل جديدة للتعمية على مشاكل قديمة والمضي في تكديسها واحدة فوق أخرى حتى أصبحت كرة ثلج توشك أن تُسقط سقف المنزل على رؤوس قاطنيه.

يبدو أن السمة الرئيسية التي تطبع الحياة السياسة في لبنان اليوم هي التكيّف مع كل واقع جديد. من شغور منصب رئاسة الجمهورية إلى التعايش مع الأخطار الأمنية من اشتباكات وأعمال عنف على الحدود وخلايا متشددة إرهابية في الداخل وقنبلة النازحين السوريين الموقتة، وصولاً إلى الرضوخ لتدخل «حزب الله» في سورية. وبات السجال يدور حول قضايا جانبية على رغم أهميتها، التشريع أم عدمه في غياب رئيس للجمهورية، سلسلة الرتب والرواتب، ملف أساتذة الجامعة اللبنانية، دفع رواتب الموظفين، آلية اتخاذ القرار في مجلس الوزراء إلخ… ونسينا تماماً سلاح «حزب الله» وهيمنته على القرار السياسي والأمني في البلاد.

وسط كل هذه التعقيدات الداخلية والإقليمية، تسمع أصواتاً عالية وأخرى خافتة، صريحة أو مضمرة، تدعو إلى تغيير النظام السياسي كأنه الحل السحري لمشاكل لبنان. وكأننا إن وضعنا تفاحاً عفناً في صندوق آخر، تزول العفونة!

من بين هذه الأصوات من يلمّح إلى مؤتمر تأسيسي أو مؤتمر وطني، ومنها من يريد انتخابات رئاسية من الشعب. بعضها يكتفي بطرح إجراء انتخابات تشريعية تعتبرها قادرة على تصحيح التمثيل وبالتالي الخروج من المأزق السياسي، وبعضها الآخر يتحدث عن لا مركزية موسعة، إضافة إلى الكثير من المقترحات التي أقل ما يقال فيها إنها ترف سياسي في ظل حقل الألغام الإقليمي الذي يحيط بنا وحال الوهن الاقتصادي والاجتماعي والصحي والبيئي والثقافي والتربوي التي وصل إليها لبنان.

القاسم المشترك بين هذه الطروحات على اختلافها كثيرة هو إعادة النظر في النظام السياسي اللبناني باعتباره قد يشكل الحل الوحيد الممكن للأزمة السياسية المستشرية في لبنان منذ عام 1٩٦٩ حتى اليوم.

الحلّ في تغيير النظام؟

إنما هل تغيير النظام السياسي وحده هو مدخل لحل أزمات لبنان القديمة والمستجدة؟

في الحقيقة لا يمكننا الإنكار أن تغيير النظام السياسي هو مطلب صحي وصحيح في آن واحد، فكل دول العالم تسعى بعد مرور فترة على دساتيرها وأنظمتها السياسية، إلى التطوير أو التغيير أو التعديل. إنما هل المشكلة اللبنانية هي مشكلة نظام سياسي أم إنها أكبر من ذلك؟ وهل الظروف التي تمر بها المنطقة وتردداتها في الداخل تشكل بيئة صالحة للتغيير أم إنها عقبة أمامه؟

مبادرات سياسية كثيرة سعت ولا تزال إلى تصويب التعايش بين اللبنانيين أو تصحيحه أو إدارته، الأولى كانت صيغة ميثاق 1٩٤٣، وبعدها تسوية القاهرة وواشنطن وانتخاب فؤاد شهاب رئيساً في عام 1958. ثم دخول لبنان في خضم النزاع الفلسطيني – اللبناني منذ 1٩٦٩، ليتحول إلى حرب أهلية. فطرحت الوثيقة الدستورية، كما مشروع جبهة الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية، إضافة إلى برامج ومشاريع كثيرة جداً عرضتها أطراف متعددة للإصلاح السياسي، حتى رست الأمور على صيغة اتفاق الطائف في عام 1989.

لم يتمكن اتفاق الطائف من إرساء أسس سلام دائم في لبنان، فمن الواضح أن البلد يعيش حال حرب أهلية كامنة. البعض يعتبره العلة والبعض الآخر يقول إن المشكلة ليست فيه، بل في مكان آخر لأنه ببساطة لم يطبق. بصرف النظر عن أي من الطرحين صحيح، يبقى قائماً السؤال الرئيسي: هل تغيير النظام السياسي في لبنان يحل الأزمة؟

في الواقع، يقف عاملان رئيسيان سداً أمام حل أزمات لبنان، أولهما دور العامل الأجنبي في الحياة السياسية اللبنانية.

في كل دول العالم، هناك عوامل وتدخلات أجنبية في الشؤون الداخلية تؤثر في الحياة السياسية. إنما في لبنان، هذا الدور منتفخ في شكل غير مسبوق. إن مراجعة سريعة للتاريخ منذ تاريخ نشوء الكيان السياسي اللبناني مع إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، تظهر أن البلد عاش 62 سنة من أصل ٩٤، وعلى أرضه وجود عسكري أجنبي. ٢٦ سنة قبل الاستقلال وجلاء الفرنسيين و36 سنة، منذ 1٩٦٩، بداية الوجود الفلسطيني المسلح وتكريسه رسمياً في اتفاق القاهرة، وحتى سنة ٢٠٠٥ تاريخ خروج الجيش السوري من لبنان، من دون أن ننسى أنه خلال تلك الفترة تم إنزال المارينز الأميركي في ثورة 1٩٥٨، وقدوم القوة المتعددة الجنسية على إثر الاجتياح الإسرائيلي الشامل الأراضي اللبنانية عام 1٩٨٢، سبقه اجتياح إسرائيلي محدود جنوبَ لبنان عام 1٩٧٨. ما يعني تكراراً أن الدور الأجنبي عامل كبير وفاعل وقوي أكثر بكثير منه في دول أخرى، وأن الأزمات السياسية اللبنانية التي في ظاهرها أزمات ومطالب سياسية داخلية لأطراف سياسيين محليين، إنما لها أبعاد خارجية وأن الأدوار الإقليمية أو الدولية تؤثر في القرارات الداخلية مهما كانت صغيرة أو كبيرة.

العامل الثاني هو في أزمة الهوية والانتماء. خلال قرن من الزمن تقريباً منذ نشوء دولة لبنان الكبير، لم يتم التوصل إلى بلورة هوية لبنانية، إذ ينتمي اللبنانيون إلى طوائف ومذاهب، أكثر من انتمائهم إلى الوطن. هوية المواطن اللبناني هي في الغالب طائفية أو مذهبية قبل أن تكون هوية وطنية، إذ يشعر اللبناني المسلم والمسيحي بأنه مسلم أو مسيحي قبل أن يكون لبنانياً. وحتى ضمن الطائفة الواحدة يشعر اللبناني بأنه ماروني أو شيعي أو سنّي قبل أن يكون مسيحياً أو مسلماً وطبعاً قبل أن يكون لبنانياً. لم تتمكن الدولة من احتضان جميع المكونات اللبنانية بحيث تخلق هوية وطنية تجمعهم فأصبح اللبنانيون سكاناً وليس مواطنين.

هذان العاملان، أديا على مر الزمن إلى تأجيج حدة الصراعات بين الأطياف اللبنانية المختلفة، وساهما في جعل الخلافات السياسية العادية كبيرها وصغيرها تتحول في كل مرة إلى خلافات على الكيان والهوية. واتسعت الهوة بين المكونات اللبنانية حتى أصيب النسيج الاجتماعي بعطب جوهري.

مع تمدد الأصوليات الشيعية والسنّية المستوردة من الخارج وردود فعل الشارع المسيحي عليها، بدأت العادات تتغير والتقاليد تتغير واللباس يتغير وطرق الحياة تتغير. ما نراه في ضاحية بيروت الجنوبية وبعلبك والهرمل غير ما نراه في عكار وطرابلس وصيدا وغير ما نراه في جونية وزحلة. هناك متغيرات ظاهرة وأخرى كامنة، تغيّرات في الشكل وأخرى في المضمون مزقت النسيج الاجتماعي لهذه المناطق.

إزاء هذا الواقع هل الحل هو فقط في تعديل النظام السياسي؟ ما العمل ومن أين نبدأ؟

من البدهي أن الطريق يبدأ بوصول مختلف المكونات اللبنانية إلى اقتناعات مشتركة حول الهوية اللبنانية ودور لبنان ومفهوم لبنان، يصبح بعدها الإصلاح السياسي مشكلة تقنية يمكن معالجتها عبر التفاوض وإدخال تعديلات تقنية بزيادة نائب رئيس هنا، مجلس شيوخ هناك، نظام انتخابي جديد، تمثيل نسبي، أو تمثيل أكثري، لا مركزية موسعة أو لا مركزية عادية وغيرها من الصيغ القابلة للتطبيق.

ولن نصل إلى هذه الاقتناعات المشتركة قبل أن نحقق المساواة بين اللبنانيين داخلياً، ونؤمن حياد لبنان عن كل النزاعات الخارجية.

المساواة بين اللبنانيين

من العوائق التي تقف أمام سبل الخروج من أزمات لبنان أن الأطراف السياسيين المتنازعين غير متساوين. أي مساواة نتحدث عنها عندما يكون فريق لبناني يمثل أو يحتكر تمثيل طائفة بكاملها كـ «حزب الله»، مدججاً بالسلاح ويمتلك أجهزة استخبارات قوية وله تمويل خارجي قوي حتى بات يشكل دولة ضمن الدولة.

بالطبع إن حالة «حزب الله» هي حالة نافرة وغير مسبوقة، إنما هذا لا يعني أن عدم المساواة مرتبط فقط بالسلاح أو المال، بل باقتناع كل فريق بحدود دوره بمعزل عن عوامل القوة لديه كالعدد أو المال أو السلاح أو الدعم الخارجي.

لا يمكن أن نتصور أن تنزع الطوائف ثيابها كلياً، وأن تتحول فجأة من تجمعات طائفية إلى تجمعات سياسية، إنما على الأقل أن تقر بحدود دورها حتى تتمكن من أن تعيش وتتفاهم مع الطوائف الأخرى. المساواة بين الأطراف على طاولة المفاوضات هي اللبنة الأولى لإمكان التوصل إلى تسوية مقبولة من الجميع.

حياد لبنان

أن يتفق اللبنانيون على الحياد التام لهذا البلد بما فيه النزاع العربي – الإسرائيلي الذي من دونه لن يكون الحياد فعالاً. إن مشكلة النزاع مع إسرائيل تتمدد لتدخل بتفاصيل ونزاعات أخرى، ما يحتم، إذا توافقنا على استمرار هذا البلد، أن يكون على الحياد من النزاعات التي تعيشها المنطقة. والحياد تجاه النزاع مع إسرائيل لا يعني معاهدة سلام أو تطبيع.

أما إذا تعذّر التوافق اللبناني، فلن يبقى من أمل بالحل إلا بفرض تسوية من الخارج وهذا الحل يصبح أقرب إلى التسوية منه إلى الحل. هذا الخيار بعيد المنال أولاً لصعوبة التدخل الأجنبي لفرض هذه التسوية، لا بل إنه شبه مستحيل في ظل الأوضاع الراهنة في الإقليم والعالم. المنطقة كلها تعيش في حالة من الفوضى وإذا ما تمت التسوية على مستوى المنطقة فلا ندري أن ما سيصيب لبنان بسببها سلبي أم إيجابي.

* إعلامي لبناني