برغم التفاوت الهائل بين حجم الأضرار التي لحقت بإسرائيل بعد حرب الأيام السبعة (حتى الآن) وتلك التي لحقت بسكان قطاع غزة، تشعر حركة «حماس» أنها هي التي تنتصر في هذه المواجهة، لأنها تمكنت من نشر الذعر بين المدنيين الإسرائيليين، وأرغمتهم على الهرب إلى الملاجئ، كلما دوّت صفارات الإنذار منذرة بقدوم الصواريخ من غزة، كما أثبتت قدرتها على الاستمرار في إطلاق صواريخها، التي وصل بعضها إلى تل أبيب، على رغم الغارات المتلاحقة التي يشنها الطيران الإسرائيلي على المواقع التي يقول إن هذه الصواريخ تنطلق منها.
فوق ذلك يشعر قادة «حماس» أنهم أعادوا وضع حركتهم بقوة على الخريطة الإقليمية، بعد المخاوف من تهميشها، بسبب الظروف الجديدة التي قطعت صلات «حماس» بالراعي المصري، بعد سقوط حكم «الإخوان المسلمين»، فضلاً عن القطيعة السابقة مع مصدَرَي الرعاية والتمويل والتسليح في دمشق وطهران، بسبب الموقف المتباين من الثورة السورية، وهو ما وضع حركة «حماس» في موقف صعب وفي عزلة سياسية ومالية، وكان من الدوافع التي فرضت عليها الموافقة على قيام حكومة وفاق مع حركة «فتح»، على رغم أنها امتنعت عن هذه الموافقة منذ الانشقاق بين الجانبين قبل سبع سنوات.
غير أن هذه «المكاسب» التي تتحدث «حماس» عنها تغفل الواقع المأسوي الذي يعاني منه قطاع غزة والذي جاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة لتضاعف منه. كما تتجاهل العدد الكبير من ضحايا العدوان الإسرائيلي الذين تساقطوا خلال الأيام الأخيرة، وبلغوا 170 على الأقل، وهو رقم مرشح للازدياد مع كل غارة على الأماكن الآهلة في القطاع. فضلاً عن الدمار الذي لحق بالبنية التحتية، غير المؤهلة أصلاً، وبالمنازل والمستشفيات وسواها، وهي ما سوف تحتاج إلى أموال وجهود كبيرة لإعادة بنائها أو ترميمها.
تغفل هذه «المكاسب» أيضاً حجم الضرر الذي لحق والذي سيلحق مستقبلاً بالعلاقة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، اللذين يبدوان أصلاً مثل كيانين منفصلين، يختلفان في كل شيء، من الوضع الاقتصادي إلى الوضع الأمني وطبيعة الحياة اليومية، حتى يخيّل للمراقب أن ما يفصل بين مدينتي رام الله وغزة يؤهلهما لتكونا عاصمتين لدولتين مختلفتين، وليستا مدينتين في الدولة الواحدة التي يحلم الفلسطينيون بقيامها. وليست المرة الأولى التي يتعرض فيها قطاع غزة للعدوان، من غير أن يستطيع المسؤولون في الضفة أن يفعلوا شيئاً، لكن العجز فاضح هذه المرة، لأن الحكومة الفلسطينية الواحدة (القائمة الآن) هي التي يفترض أن تكون مسؤولة عن كل الفلسطينيين وحامية لهم.
من الصعب تصور خريطة طريق أو هدف لهذه المواجهة سوى إصرار «حماس» على إثبات نفسها لاعباً أساسياً في المعادلة الفلسطينية، بعد أن خسرت الكثير من أوراقها السياسية بفعل المصالحة التي فُرضت عليها مع حركة «فتح»، وبفعل انشغال العرب عن قضية فلسطين بالحروب الداخلية المذهبية الدائرة بينهم، ما وضع الحركة الإسلامية والوضع الفلسطيني عموماً في أسفل أولويات المشاغل والاهتمامات العربية.
كان في إمكان حركة «حماس» أن تأخذ هذه الظروف في الاعتبار قبل الإقدام على المغامرة الأخيرة. إلا إذا كانت «حماس» قد راهنت مجدداً على أن العدو الإسرائيلي سيتردد في ارتكاب المجازر بحق المدنيين، أو أنه سيتجاوب مع الدعوات الدولية لاحترام قوانين الحرب التي تمنع قصف المناطق الآهلة بالسكان والمستشفيات ودور العجزة، وقد أثبتت إسرائيل مجزرة بعد مجزرة أنها لا تقيم وزناً لهذه الالتزامات.
تدعو «حماس» إلى العودة إلى بنود الهدنة التي تم التوصل إليها بعد المواجهة الأخيرة قبل عامين. وهي تعرف أن من الصعب أن توافق إسرائيل على العودة إلى تلك الشروط، إلا إذا ضمنت وضعاً على حدودها مع غزة يشبه الوضع الذي ضمنته على حدودها مع لبنان بعد حرب تموز (يوليو) 2006. فهذه الهدنة، التي ستحتاج إلى قوات دولية لرعايتها، تحتاج أيضاً إلى من يتوسط للتوصل إليها. لقد لعبت مصر دوراً أساسياً في التوصل إلى هدنة عام 2012، وهو ما سهّل للولايات المتحدة أن تضغط على إسرائيل. لكن مصر الآن في موقع آخر، وإدارة أوباما التي سبق أن سحبت يدها من عملية التسوية التي كانت ترعاها، لا ينتظر منها اليوم أن تمارس أي ضغط على بنيامين نتانياهو، إرضاء لحركة «حماس». أما العرب… فمن غير المجدي أن يسأل المرء أين هم.