Site icon IMLebanon

«خليفة» عراقي في عصر المالكي!

الدعوة التي أطلقها حسن البنا من الاسماعيلية سنة 1928 حققها هذا الأسبوع أبو بكر البغدادي مؤسس وقائد تنظيم «داعش». وهي الدعوة التي تحيي الخلافة الاسلامية التي ألغاها كمال اتاتورك عقب إنهيار الامبراطورية العثمانية.

ومع أن جماعة «الاخوان المسلمين» كانت تنتظر من المرشد العام محمد بديع تحقيق حلم حسن البنا أثناء رئاسة محمد مرسي، إلا أن تردده أعطى عبدالفتاح السيسي فرصة الانقضاض عليه وعلى أنصاره. وهكذا أضاع «اخوان» مصر فرصتين تاريخيتين: الأولى، خلال العهد الملكي بعدما اغتيل المؤسس حسن البنا رداً على إغتيال النقراشي باشا. والثانية، يوم أُعدِم المنظر السياسي سيد قطب في عهد جمال عبد الناصر. علماً أن أهمية تعاليمه كانت تكمن في جعله «الجهاد في سبيل الله» فرضاً دينياً حلله في كتابه المثير للجدل، وعنوانه: «الفريضة الغائبة». أي الفريضة التي يُطلب من كل مسلم تطبيقها كما يطبق الفرائض الخمس الملزمة: الشهادتان والصوم والصلاة والزكاة والحج.

ومن فكرة سيد قطب إنطلقت أعمال العنف التي حصدت ألوف الضحايا الأبرياء باسم الاسلام!

يقول الباحث الفرنسي دومينيك توما إن زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري كان دائماً يشكو من عدم إمتلاك منظمته قطعة أرض مستقلة يمكنه إعلان دولة الخلافة من فوقها. لذلك إضطر الى نقل المقاتلين من أفغانستان وباكستان، عقب إغتيال مرشده أسامه بن لادن، الى الصحارى المجاورة لمالي والنيجر. لهذا السبب نصح البغدادي بضرورة تأمين ثلاثة عناصر قبل الاقدام على نشر دعوته: أولاً- الحرص على طرح عقيدة صالحة ومغرية لاجتذاب أكبر عدد من المؤيدين المسلمين. ثانياً- العمل على نشر هذه العقيدة وسط مجتمعات قابلة لاحتضانها وتبنيها والموت في سبيلها. ثالثاً- الحصول على دعم سياسي ومعنوي خارجي بهدف تثبيت السيطرة على الأراضي المحتلة.

ويرى البغدادي أن الاختراق العسكري الذي حققه في سورية والعراق يسمح له باعلان نفسه خليفة على المسلمين. خصوصاً أنه ينسب نفسه الى الخليفة الأول والصحابي أبو بكر الصديق، والى العاصمة العراقية. علماً أن أسرته تنتمي الى عشيرة السامرائي، المتحدرة من محافظة ديالى، شرق العراق المضطرب. وقد تابع تحصيله العلمي في الجامعة الاسلامية في بغداد. ولم يسبق له أن حمل السلاح قبل الاجتياح الاميركي للعراق سنة 2003.

مع بداية شهر رمضان المبارك، أصدر المتحدث باسم الدولة الاسلامية أبو محمد العدناني بياناً سياسياً جاء فيه: «إن الدولة الاسلامية، ممثلة بأهل الحل والعقد فيها من الأعيان والقادة والأمراء ومجلس الشورى، قررت إعلان قيام الخلافة الاسلامية وتنصيب خليفة دولة المسلمين ومبايعة الشيخ المجاهد أبو بكر البغدادي، فقبِل البيعة وصار بذلك إماماً وخليفة للمسلمين. وعليه يُلغى إسم العراق والشام من مسمى الدولة من التداولات والمعاملات الرسمية إبتداء من هذا اليوم.»

بعد قبوله مسؤولية الخلافة، وجه أبو بكر البغدادي كلمته الأولى الى جموع المسلمين، طالباً منهم الهجرة الى دولته، أي الى «الدولة الاسلامية في العراق والشام.» وعلى الفور أعلنت تسع جماعات معارضة في سورية رفضها القاطع قيام دولة البغدادي واصفة تنظيمه بـ «شلة الخوارج.»

ولكن معارضة أسلوبه في الحكم لا يجوز أن تقتصر على الكلام فقط، بل يقتضي الأمر مقاومة جرائمه، كي لا تتحول ممارساته الى مسالخ بشرية مثل «بول بوت» وخميره الحمر في كمبوديا… ويُستنتَج من تهديد العدناني أن خليفته غير مستعد لأن يقلد الخلفاء الراشدين، وإنما هو ماضٍ في تقليد جنكيز خان ومجازره المرعبة.

ففي نشرة الأحد الماضي، أعلن المرصد السوري لحقوق الانسان أن «تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام» أعدم ثمانية معارضين في بلدة «دير حافر» في ريف حلب الشرقي، ثم قام بصلبهم. وبقيت جثثهم معلقة على الصلبان مدة ثلاثة أيام. ولم تكن الصور التي وُزعت لمعارضي «داعش» على الصحف والانترنت سوى نماذج للقصاص الذي ينزله أبو بكر البغدادي بخصومه، وذلك بغرض بث الخوف والرعب في نفوسهم.

وجاء في أدبيات «داعش» ما يبرر هذه العملية وغيرها، مستلهماً حادثة عبدالله بن الزبير الذي إنتفض على الخليفة عبدالملك بن مروان. وعاقبه الخليفة بواسطة الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي قتله وأرسل رأسه الى الخليفة في دمشق. وبقيت الجثة مصلوبة وقتاً طويلاً كعبرة للمشككين بشرعية الخليفة وحسن قيادته. وجاء في إحدى قصص جرجي زيدان أن والدة المصلوب أسماء بنت أبي بكر الصديق كانت تمر كل يوم بالقرب من جثته وتتمتم: رباه… أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟!

وعندما ذكرت الصحف الغربية أن البغدادي، في عقوبته الرادعة، يقلد الرومان الذين كانوا يستخدمون الصليب كقصاص لخصومهم، جاء مَنْ يتسلح بالآية الثالثة والثلاثين في سورة المائدة التي تتحدث عن «القتل والصلب كجزاء للمفسدين.»

المهم، أن وثيقة القيَم الداعشية قد تعدت قصاص الصلب الى تطبيق «وثيقة المدينة» التي أصدرها التنظيم فور دخوله مدينة الموصل. أي الوثيقة التي تتحدث عن ضرورة هدم التماثيل ولو انها ترمز الى شعراء ومفكرين وموسيقيين كانوا يعبِّرون عن الارث التاريخي للمدينة.

وكما فعلت طالبان في أفغانستان هكذا قام التنظيم بهدم كل التماثيل بما فيها تمثال الموسيقار الشهير ملا عثمان الموصلي، وتمثال الشاعر العباسي أبو تمام.

وعندما علمت الجالية المسيحية في الموصل أن مسلحي «داعش» إعتدوا على كنيسة كلدانية في حي الشفاء، وهدموا تمثال «مريمانة»… قرروا الهرب الى إقليم كردستان.

وفي بيان رسمي صدر عن مكتب مستشار أمين عام الأمم المتحدة المعني بمكافحة الابادة الجماعية، أعربت المنظمة الدولية عن قلقها ازاء تدهور الوضع الأمني في العراق، وأثره السلبي على الأقليات الدينية والعرقية.

والثابت أن عدد المسيحيين في العراق كان يزيد على مليون نسمة قبل الغزو الاميركي سنة 2003، بينهم أكثر من 130 ألفاً في مدينة الموصل وحدها. كما تُعتَبر الجالية المسيحية في العراق من أقدم الجاليات في العالم بدليل أن سكان بعض القرى ما زالوا يتكلمون اللغة الكلدانية القديمة.

بعد تنامي موجات العنف أثناء الاحتلال الاميركي، إنخفض عدد المسيحيين الى النصف تقريباً، خصوصاً بعدما إستهدفت «القاعدة» كنائسهم وأديرتهم وقياداتهم الروحية. وفي سنة 2008 خطف المتطرفون كاردينال الكنيسة الكلدانية فرج رحو الذي وُجِد مقتولاً بالسكاكين. وكان ذلك الحادث سبباً لنزوح مسيحي جماعي باتجاه كردستان. وعندما سيطرت «داعش» على مدينة الموصل، لم تجد فيها أكثر من عشرة آلاف مسيحي. وقد نزح منهم ثمانية آلاف الى مدينة قراقوش الكردستانية.

يُجمِع المراسلون في سورية على القول إنه بعد سيطرة «داعش» على محافظة الرقة، قام بانشاء دوائر خاصة أطلق عليها تسميات إسلامية. ثم إنتقل الى مرحلة ثانية في إحكام سيطرته على المواقع الأمنية بواسطة «الشرطة الاسلامية»، بعدما طرد جماعة الائتلاف الوطني المعارض.

أما في العراق، فان هيمنة التنظيم تظهر واضحة في كل مدينة من المدن التي أعلنها البغدادي خاضعة لنفوذه. ويتذكر محافظ نينوى أنه أثناء إجتياح مدينة الموصل، قامت جماعة «داعش» بالاستيلاء على المصارف، وعلى خزائن المال التي جمعت في حينه 425 مليون دولار.

وفي الوقت ذاته تعمَّدت هذه الجماعة إحتلال مناطق النفط التي تقع في الشمال. وبهذا ضمنت مردود 22 حقل نفطي، إضافة الى 12 حقلاً في الموصل وعشرة حقول أخرى في سورية. وإذا أضيفت هذه المصادر المحلية الى المخزونات السابقة، فان «داعش» تُعتَبَر أغنى منظمة إرهاب في العالم.

وعلى سبيل المقارنة، فان ميزانية «حزب الله» السنوية لا تتعدى المئتي مليون دولار… في حين تعمل «طالبان» بميزانية قدرها 70 مليون دولار. أما «القاعدة» فلا تزيد على 30 مليون دولار.

يوم الثلثاء الماضي دعا البغدادي، في كلمة بصوته دامت 19 دقيقة، المسلمين في كل مكان للهجرة الى دولته الاسلامية، معتبراً الهجرة أمراً واجباً الى «دار الاسلام». ثم زاد: «يا جنود الدولة الاسلامية، إن إخوانكم في كل بقاع الأرض ينتظرون نجدتكم وطلائعكم، ويكفيكم ما وصلكم من مشاهد في افريقيا الوسطى وبورما. فوالله لنثأرنَّ ولو بعد حين. إن لكم في شتى بقاع الأرض إخواناً يسامون سوء العذاب… أعراضاً تُنتَهَك ودماء تراق… فالهمّة الهمّة.»

وكان من الطبيعي أن يذكره منتقدوه بالمجازر الاسرائيلية التي إرتكبتها اسرائيل في فلسطين على إمتداد ستين سنة. ولماذا تجاوزها في كلمة التهديد والوعيد! كذلك طالبه مسيحيو الموصل بألا ينسى مذابح منظمة «بوكو حرام» ضد مسيحيي نيجيريا، وإضطهادها للمنتمين الى دين المحبة والتسامح والمغفرة!

خلال هذا الأسبوع، وزع المركز الاعلامي لدى «داعش» خريطة تمثل خطوط الامبراطورية الاسلامية التي ينوي البغدادي إحياءها. وهي تمثل عصر الفتوحات التي إمتدت الى اسبانيا والنمسا ودول البلقان، وجنوب شرقي اوروبا، ونصف افريقيا، وجنوبي آسيا. كل هذا بهدف تجديد العصر الأموي السني الذي وصل الى ذروته في سنة 750 ميلادية.

بقي أن نذكر أن موجة التعصب والفتنة المذهبية التي أطلقها «داعش» قد شجعت ميليشيات أخرى على الاقتداء بنهجه الشوفيني المنحرف. وفي هذا الأسبوع أطل أمير «جبهة النصرة»، أبو مالك الشامي، ليهدد «حزب الله» بالويل والثبور وعظائم الأمور، عبر بيانات «همايونية» شملت المسيحيين الذين يتجرأون على الصلاة في الكنائس!