اعتلى المنبر، تكلم بصوت واثق، قلّد كلام أبي بكر الصديق، اعتبر أنه صار الخليفة على كل المسلمين. من لم يطع أوامره من غير «أهل السنة» مرتد كافر يعدم؛ ومن كان نصرانياً اعتبره من أهل الذمة وعليه دفع الجزية؛ أعلن أنه، وقد أخذ بيعة المسلمين، سيناضل من أجل تحقيق وحدتهم وإنزال الهزيمة بالعدو «بحد السيف». استخدام السيف في القرن الواحد والعشرين معناه العودة إلى الماضي الذي كان يعيشه الخليفة المذكور، معناه أن المسلمين سوف يجبرون على العيش في عالم يشبه ذلك الماضي. لم يخبرنا كيف سيستخدم حد السيف لمواجهة الأعداء الذين يملكون الطائرات والصواريخ على أنواعها. حتى في المجاز والتشبيه والكناية وكل ألاعيب اللغة، لم يستطع تجاوز الماضي.
هو في الحقيقة لم يقل شيئاً سوى الاستعراض بشكل يبعث على الضحك، لكن ما أعلنه يشي أنه سوف يعيد المسلمين إلى عهد السلف الصالح، أي العصر الذي لم يعرفه، بل العهد المرسوم في ذهنه، وأنه سوف يقاتل المسلمين الآخرين الذين لا يوافقونه الرأي. هو في كل مكان سبب لحرب أهلية، وهو سبب ليكون تعبيرا عن اللاعقلانية في الحياة العربية.
في ذهنه صورة يريد تطبيقها على غيره من المسلمين. هم الآخر بالنسبة إليه، هم الذين لا يتناسبون مع هذه الصورة. لذلك وجب قتلهم. هو مشروع انتحاري جماعي يختلف عن الفردي في أنه هو وأصحابه من جماعة هذه الفرقة التعبدية السرية، قرروا الموت في الصحراء متسلحين ببقايا الجيش الأميركي والجيش العراقي في مواجهة قوى العالم التي قررت شن حرب عالمية على الإرهاب. ما زال هو، أو غيره، ينفذ عمليات انتحارية فردية، لكنه قرر أن ينفذ مع أتباعه عملية جماعية انتحارية باسم الماضي السحيق لدحر عدو معاصر «بحد السيف» وهذا يمثل مرة أخرى، أقصى درجات انتفاخ الذات، إذ يظن أنه يمكن أن يعيد تكرار الماضي، أو يظن أنه بقواه الذاتية يهزم العدو. انتفاخ الذات لديه معناه أنه يقرر الماضي والحاضر والمستقبل؛ بالأحرى يتوهم ذلك. ذاته مبنية على الأوهام.
لا بد أن قواه الذاتية تخدم أغراضاً إمبريالية ما، في صراع يُراد له أن يكون سنياً ـ شيعياً، وأن يتحول إلى حرب أهلية تمنع أي تقدم سياسي يكون فيه الحوار هو إطار السياسة وإطار التطور في المشرق العربي. يريد دولة خلافة من دون حوار. يريد وهماً لم يتحقق في الماضي ليتحقق اليوم في ظروف تختلف عن الماضي بكثير.
هو لا يرى إلا الماضي. لا يريد التصدي للمستقبل لأنه لا يملك الأدوات الذهنية ولا الاجتماعية لمعالجة المستقبل في مجتمع لم يعد يسمح بتجارب جماعية سوى في إطار الدولة الحديثة ومجتمع الإنتاج وثقافة المعرفة. وبما أنه لا يدرك شيئاً عن فلسطين، وربما لم يكترث لها، فإنه لا يذكر الحرب التي تشنها إسرائيل هناك بما يؤدي وسيؤدي إلى مجزرة بشعة، كما تعودنا. لا تبدو فلسطين على جدول أعماله، بل يريد الولوج في حرب أهلية عربية ـ عربية، لكي تبقى أنظار العرب بعيدة عن فلسطين في هذا الوقت العصيب. التوقيت ليس غريباً؛ حرب إسرائيل تحت مظلة حرب أهلية عربية.
لم يهيئ من العدة لمواجهة «العدو» سوى الصورة النمطية لماضٍ وهمي لم يحدث، (وكل كلام عن أولوية الخلافة في الدين وهم)، أو إذا حدث فلا يكون صالحاً لزمان مختلف وشروط قتال مختلفة. هو يمثل الجانب اللاعقلاني من هذا المجتمع. حركته ليست أكثر من انفجار هذا الجانب اللاعقلاني في عملية انتحار جماعية. يطبق على جماعته ما طبقه على الأفراد الانتحاريين. وفي الحالتين، لا يحقق من أهدافه سوى المزيد من الدمار والقتل والتخريب. ربما استطاع بعض انتحارييه الأفراد إصابة أهدافهم. وهذا ما يؤسف له، لكن جماعته لن تحقق إلا ما هو سلبي يؤدي إلى شلل هذا المجتمع في مقاومة الاستبداد وفي مقاومة إسرائيل وفي مواجهة الإمبريالية.
نستنتج أن حركته ليست مسرحية، بل مؤامرة فعلية تحقق أغراض أصحابها في إضعاف هذه الأمة وإبعادها عن الثورة وعن التوحد، لتكون لقمة سائغة لأعدائها.
مجتمعنا ليس «بيئة حاضنة» لمثل هؤلاء القادة المهرجين. يعرف الناس أن الخليفة المفتعل ليس مسألة جدية، ولا يمكن أن تكون كذلك. يعرف مجتمعنا أن هذا الخليفة بعيد عن الجدية بكل الموازين الواقعية. المطلوب منه لم يعلنه. أعلن شيئاً آخر لأنه لا يجرؤ على إعلان ما يقصد.
إن الوجود العربي الآن، كما في كل آن، مرهون بوجود الدولة والقانون والدستور والحدود الجغرافية. وإسرائيل ليس لديها حدود جغرافية أو دستور تعترف بهما.
إن انتقال المنطقة إلى مرحلة اللاتحديد في الحدود والدساتير هي مرحلة اللاعقلانية، وهي لا تخدم إلا الصهيونية؛ عن قصد أو غير قصد.