تمضي خمس دول عربية قدماً خلال الشهرين الراهنين باتجاه تنظيم انتخابات بالغة الأهمية، وسط إشارات ضئيلة إلى احتمال أن تحرز أيّ من هذه الدول تقدّماً باتجاه الانتقال الديموقراطي للسلطة.
في 17 نيسان (أبريل)، أجرت الجزائر انتخابات رئاسية. وكان المرشّح الأساسي فيها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي سبق أن حكم لثلاث ولايات رئاسية، والذي كان مريضاً جداً حتّى أنه بدا عاجزاً عن السير على قدميه، مع أنّه على ما يبدو ليس مريضاً بما فيه الكفاية كي لا يترشّح للانتخابات. وحقق فوزاً ساحقاً وحصد 82 في المئة من الأصوات الناخبة، في إطار منافسة انتخابية خضعت لإدارة جيّدة. ويشار إلى أنّ سبب تجنّب الجزائر اندلاع ثورات شبيهة بالربيع العربي يعود جزئياً إلى عدم زوال الحرب الأهلية من الذاكرة، التي ساهم بوتفليقة في إنهائها، وإلى إيرادات النفط الهائلة، وإلى النموذج السلبي الذي وفّرته بعض الدول العربية، على غرار ليبيا وسورية، مع ما شهدته من انتفاضات.
يزعم أشخاص من داخل الحكومة أنهم يحاولون إعداد عملية انتقالية داخلية، من خلال تعيين نائب لبوتفليقة يكون وريثاً للسلطة في البلاد. ولن تكون هذه عملية انتقالية، بل بالأحرى خلافة وراثية واستمراراً للنظام الاستبدادي الصارم الذي انهار في عدد كبير من الدول العربية. وإن لم ينظر النظام الجزائري بجدّية إلى ضرورة حصول مستجدات سياسية توصل إلى نظام سياسي أكثر اتساعاً وتفاعليّةً، فمن المحتمل أن تسير الجزائر بخطى ثابتة باتّجاه تدهور سياسيّ.
لقد شهد 23 نيسان الماضي باكورة محاولات مجلس النواب اللبناني المتعددة لانتخاب رئيس للجمهورية. ومنذ ذلك اليوم، حصلت ثلاث محاولات انتخاب، باءت كلها بالفشل، علماً أنّ منصب الرئاسة سيصبح شاغراً في 25 أيار (مايو) المقبل، مع احتمال عدم انتقاء أيّ خلف منتخب له يملأ منصبه. ويناشد الإصلاحيون منذ خمسينات القرن الماضي بانتقال سياسي نحو مستقبل أقل طائفية، علماً أنّ اتفاق الطائف بحدّ ذاته أوصى في العام 1989 بتطوير خطة وطنية وتطبيقها، بغية إبعاد البلاد عن الطائفية. ولكن بعد مرور 25 عاماً على هذا الاتفاق، يبدو النظام أكثر طائفية من أي وقت مضى. وسواء اتفقت المجموعات الصغيرة الطائفية التي تهيمن على النظام اللبناني على مرشح لملء منصب الرئاسة أم لا، من الواضح أنّ النخبة الحاكمة في لبنان لا تُظهر أيّ نيّة بإجراء أيّ إصلاح سياسي أو اقتصادي – اجتماعي يتّسم بالجدّية.
في 30 نيسان، أجرى العراق انتخابات برلمانية. بعد مرور إحدى عشرة سنة على انهيار النظام الديكتاتوري الذي أرساه صدام حسين، وانقضاء سنتين ونصف السنة على انسحاب القوات الأميركية، لا يزال العراق على شفير التشرذم. فبدلاً من تعزيز الديموقراطية، استغل رئيس الوزراء المالكي الانسحاب الأميركي والقوى المسلحة الكبيرة التي ساهم الأميركيون في بنائها، لتركيز السلطة بين يديه من موقعه كرئيس للوزراء ووزير للدفاع ووزير للداخلية وقائد للقوات المسلحة. إلى ذلك، سارع لاستبعاد شركاء الحكومة الأكراد والسنّة. وعشية الانتخابات، كان الأكراد يفكّرون علناً في الانشقاق، فيما فتح استياء السنّة الأبواب أمام معاودة ظهور مجموعات تابعة لتنظيم «القاعدة» في الأنبار وفي أنحاء أخرى ذات أكثرية سنية في العراق. ولا يزال المالكي هو المرشح الأقوى بين المرشحين الشيعة كافة، ومن المرجح أن يحقّق أفضل النتائج حين يتمّ الإعلان عنها. أما السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه فهو التالي: هل سيستخدم المالكي فوزه الانتخابي لفرض حكومة استبدادية وحصرية، أم أنه سيجد نفسه مجبراً على مدّ يده باتجاه المجموعات الأخرى – داخل المجتمع الشيعي والمجتمعات الكردية والسنية – لتشكيل حكومة أكثر شموليّة، تعيد العراق نحو مستقبل أكثر ديموقراطية .
وعلى صعيد آخر، ستشهد مصر انتخابات رئاسية في 26 و27 أيار (مايو) الحالي. ومن المرجّح تحقيق فوز ساحق لوزير الدفاع السابق عبد الفتاح السيسي، المعروف أنه أطاح الرئيس السابق محمد مرسي وحكم جماعة «الإخوان المسلمين». إلا أنّ مصر اليوم تسير على طريق تشوبها التناقضات، حيث أنّ خريطة الطريق التي أعلنتها الحكومة الموقتة، والدستور الجديد الذي تمّت المصادقة عليه في كانون الثاني (يناير) من هذا العام، يعدان بمستقبل ديموقراطي وبعودة سريعة إلى الديموقراطية. إلا أنّ الحملة المعلنة ضد جماعة «الإخوان المسلمين» كرّست العودة إلى نظام القمع الاستبدادي، الذي يبدو أسوأ من ذلك الذي كان قائماً في عهد مبارك. ويقول السيسي علناً أنّه لا يمكن العودة إلى نمط الحكومة الذي كان قائماً قبل العام 2011. بيد أنّ عدداً كبيراً من مؤسسات الدولة المصرية ومن عناصر نظام مبارك السابق يراهنون على أنّ العودة إلى هذا النمط ممكنة وهي تحصل حالياً. وإن لم يتخذ السيسي، في حال وصوله إلى سدّة الرئاسة، موقفاً صارماً، ولم يعمل على إرساء مسار من شأنه الجمع بين الأمن والمواطنة ووضع رؤية سياسية واقتصادية لمصر تكون مختلفة عن تلك التي كانت قائمة قبل العام 2011، قد تصل مصر إلى حائط مسدود وتشهد انتفاضة أخرى.
أما أكثر الانتخابات العربية إثارة للحزن، فتلك التي تمّ الإعلان عن موعدها في 3 حزيران (يونيو) القادم من ميادين القتال في سورية. ويبدو أنّ بشار الأسد، الممتعض حيال اضمحلال سورية التي كنا نعرفها في عهده وحيال تفكّك النسيج الوطني الذي ضمن التعايش على مدى قرون، لا يقرّ بالحاجة إلى حصول تغيير أو عملية انتقالية. بعد ثلاث سنوات على اندلاع الانتفاضات العربية التي حملت الأمل للعالم العربي، ليس المشهد اليوم مشجعاً، إذ لم تبرز أحزاب ولم يظهر زعماء لاستكمال هذه الانتفاضات الشعبية، ولحمل رسائلها إلى السلطة، مع الإشارة إلى أنّ الأحزاب والمؤسسات القديمة تسارع إلى ملء الفراغ، وإلى إنكار الحماسة التي نتجت من هذه الانتفاضات. غير أنّ الصورة ليست قاتمة. فلم يعد ممكناً وقف القوى الشعبية التي برزت. ولا يمكن العودة إلى الأنظمة الديكتاتورية الصامتة. وعلى رغم وجود تحديات واضطرابات، ثمة إشارات إيجابية في تونس، واحتمالات بالإقدام على إصلاحات في مصر، وفرصة إصلاح في العراق، وفسحة أمل قائم للمباشرة في حوار سياسي وانخراط في لبنان واليمن. إلا أنّ الانتخابات المرتقبة في الفترة الراهنة تدل على أنّ الديموقراطية تتخطى الانتخابات وأنّ الطريق لحصول انتقال ديموقراطي في العالم العربي لا يزال طويلاً وصعباً.