كثَّف الملك السعودي عبدالله، في الأسابيع القليلة الماضية، تصريحاته ضد «داعش». استغرب كيف ان «إنساناً يمسك بانسان آخر ويذبحه (أو يذكيه كما قال) كالغنم». أمر بعدد من الاجراءات الامنية والقانونية العقابية ضد الارهابيين. موَّل مركزاً دولياً لمحاربة الارهاب. دعا العالم الى إقامة جبهة فورية لمحاربة التنظيم الارهابي. خاطب سفراء الدول الغربية: «يجب محاربة الارهاب الشرير بالقوة والعقل والسرعة». اتهم العلماء السعوديين بالتقصير والكسل والتراخي. لا بل ذهب أبعد من ذلك، قرر وضع «داعش» و«النصرة» على لائحة الارهاب. ماذا يريد الملك؟ هل قرّر فعلاً ضرب داعش؟ وهل يستطيع؟
بعد مرور أشهر قليلة على اندلاع الأزمة السورية، تكثّفت الاتهامات السورية والايرانية والعراقية والروسية ومن حزب الله للسعودية وتركيا وقطر بدعم الارهاب. أعقبتها اتهامات مماثلة من قبل كتَّاب غربيين على غرار سايمون هندرسون. ردّت الرياض مراراً بتحميل النظام السوري وحزب الله وموسكو وطهران مسؤولية تغذية الارهاب. وقالت إنها، أي السعودية، كانت الضحية الاولى للارهاب، وفي طليعة من حاربه على أرضها.
التاريخ إن صدق، وهو غالباً لا يصدق بسبب أهواء كاتبيه، سيشرح من كان على حق في هذه الحرب التي أكلت الاخضر واليابس في سوريا والعراق وليبيا، والآن اليمن، وغيرها، لكن الحاضر يؤكد ان جزءاً كبيراً من هذا الارهاب وجد في الصراعات الاقليمية بيئة حاضنة لانتشاره، تماماً كما وجد في الصراع الروسي ــــ الغربي مجالاً واسعاً للانتقال عبر المطارات الغربية والتركية صوب سوريا.
الآن، ثمة تغييرات طرأت بسبب التمدّد السريع لـ «داعش». يتفق الجميع على أن التنظيم ذا الخلافة المعلنة لا يقبل العروش والممالك، تماماً كما يرفض الشيعة وكل سني يعارضه، ويكفِّر الاقليات، وينشد التمدّد بالخلافة صوب اوروبا وغيرها… بمعنى آخر، المصيبة تكاد تجمع المتناقضات لمحاربة «داعش».
السعودية، بهذا المعنى، ليست بعيدة عن التهديد المباشر. من هنا، يبدو كلام الملك عبدالله في سياقه الطبيعي. سعى الملك السعودي سابقاً إلى ادخال اجراءات اجتماعية وسياسية انفتاحية، مثل اشراك المرأة في بعض الوظائف، وتأسيس نظام البيعة، وتخفيف وطأة المؤسسة الدينية الوهابية عن بعض أنظمة التربية والتعليم (يمكن العودة الى كتاب «السعودية من الداخل» لروبرت لايسي).
كلما أقدم على ذلك، كان الملك يشعر بتململ العلماء والدعاة غير المنضوين تحت راية المؤسسة الدينية الرسمية. لا بل إن وزير الخارجية الامير سعود الفيصل نفسه كان قد شرح خطورة هذه المؤسسة الدينية، وذلك رداً على سؤال لمجموعة من الصحافيين الاجانب عن سبب عدم وضعه ابناءه في مدارس مختلطة.
وحين اندلعت الازمة السورية، كان الملك عبدالله في البداية غير راغب في مهاجمة الرئيس بشار الاسد. رغبته تلك ارتبطت بالقلق من الرغبات القطرية والتركية في إشراك «الاخوان المسلمين» في السلطة السورية. وصلت رسائل خليجية الى الرئيس السوري تدعمه في قمع المتمردين. دمشق نفسها بقيت، في البداية، بعيدة عن انتقاد الرياض. يقول مسؤول سعودي إن الرياض لم تكن ترى في النظام السوري خطراً، سوى حين أصبح تحالفه مع ايران كبيراً. كانت ايران مصدر القلق لا النظام السوري.
وضع السعودية والكويت هو الأصعب بين كل الدول التي ستنضوي في الجبهة الاقليمية ــ الدولية
في المقابل، يقول مقربون من الأسد إن خلافات كثيرة باعدت بين الجانبين قبل اندلاع الازمة السورية، واختلط فيها السياسي بالشخصي، وخصوصاً مع الامير سعود الفيصل. ثمة من يرى ان السعودية لم تنسَ خطاب الاسد حين وصف القادة العرب بـ «أنصاف الرجال» في قمة غزة.
بهذا المعنى، ما كانت السعودية لترفض اي وسيلة لاسقاط الأسد، حتى ولو كان المسلحون ضده من تيارات تكفيرية او ارهابية. كانت الفكرة انه بعد اسقاط النظام السوري يمكن محاربة الارهاب بتيارات داخلية سورية مدعومة من الخليج والغرب.
الآن، بعدما باتت «داعش» تهدد الجميع، ماذا ستفعل السعودية؟
تشير إحصاءات غربية الى ان اكثر من خمسة الآف مقاتل في «داعش» سعوديون. وتفيد استطلاعات للرأي ان الكثير من السعوديين يرون ان «داعش» انتقمت للسنّة، وبالتالي لا ضرورة لضربها. بعض السعوديين مزّقوا جوازات سفرهم أمام الكاميرات. تعرضت السعودية لهجوم ارهابي قبل فترة. وربما تعرضت لغيره أيضاً. قبل ذلك، كاد الامير محمد بن نايف يقضي في تفجير مكتبه.
كلها أمور مقلقة. المقلق أكثر ان السعودية لا تستطيع، دينياً وفقهياً، ان تكفِّر النصوص التي تستند اليها «داعش». فأهل الخلافة الاسلامية الجديدة يبنون على افكار غير قابلة للنقض من قبل أهل السنة. الممارسة وحدها قابلة للانتقاد والعقاب.
بهذا المعنى، لعل وضع السعودية الآن، وبعدها الكويت، هو الأصعب بين كل الدول الاخرى التي ستنضوي تحت لواء الجبهة الاقليمية ــــ الدولية.
وهي إذا مضت في ضرب «داعش» وانخرطت مباشرة في القتال، فإن ذلك سيثير ثلاثة مخاطر على الاقل: اولها اثارة متطرفي المؤسسة الدينية في الداخل الذين قد يلجأون الى التعبير عن ذلك بأساليب مختلفة، وثانيها احتمال وقوع تفجيرات داخل السعودية او ضد المصالح السعودية في الخارج، وثالثها تعزيز دور خصوم السعودية وفي مقدمهم ايران. أما اذا لم تقرّر المشاركة في ضرب «داعش»، فإن الخطر على أبوابها، والغضب الاميركي سيزداد، وستجد نفسها معرّضة لاتهامات خصومها بدعم الارهاب.
ما الحل؟
ستعمل السعودية اذاً كل ما في وسعها للحصول على ضمانات سياسية وأمنية. هذا يفترض المطالبة بتعزيز الحضور السني في الدول المعنية، وخصوصاً العراق وسوريا، وتحجيم دور الحوثيين في اليمن، ورفع مستوى تسليح المعارضة المسلحة القريبة منها على الاراضي السورية. هل كان تفجير مقر «حركة احرار الشام» مرتبطاً بهذه المعادلة؟ ربما.
هذه المطالب، على كل حال، تلقى تأييداً مباشراً من بعض الدول مثل فرنسا التي زارها ولي العهد السعودي الامير سلمان بن عبد العزيز أخيراً. وهنا، للمصالح الاقتصادية دور كبير، وسط تنامي الصفقات الفرنسية مع السعودية، بدلاً من الصفقات التي كان يعقدها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي مع قطر.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يسعى، من جانبه، إلى أداء دور وساطة. يقال إن المساعي المصرية جدية على خط الرياض ــــ طهران ــــ دمشق بغية استئناف الحل السياسي. الامم المتحدة تدعم. وسيطها ستيفان دي ميتسورا وصل الى دمشق. مجرد استقباله يعني ان باب الحل السياسي لم يغلق، برغم افضلية الحسم العسكري.
لكن العقبات مستمرة.
صحيح ان زيارة مساعد وزير الخارجية الايرانية حسين أمير عبد اللهيان للسعودية مهّدت الباب للحوار الذي قد يستكمل بلقاء وزيري خارجية البلدين في نيويورك، لكنه واهم من يعتقد بأن خطر «داعش» سيجعل السعودية وحلفاءها، او ايران وحلفاءها، يخففون شروطهم التنافسية في المنطقة، على الاقل في المدى المنظور. لنلاحظ، مثلاً، انه يوم تأليف الحكومة العراقية (التي لم تكتمل بعد)، سارع الغرب الاطلسي الى تأييدها، بينما اندلعت اشتباكات خطيرة في صنعاء أعقبها اتهام سعود الفيصل للحوثيين ودول خارجية (وهو يعني طبعاً ايران، وربما قطر) بتأجيج الصراع وضرب المبادرة الخليجية.
لعل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان أول من دقّ ناقوس خطر التحالف الدولي الجديد ضد «داعش»، حين شكّك في فعاليته ونياته طالما أنه يستبعد ايران وروسيا وسوريا. تحذير يقول لأوباما بلغة الصراع الدولي: «إما أن نشترك واياك في ضرب داعش ونعقد صفقة في المنطقة، او تحمّل مسؤولية ما ستفعله». لم ولن تنسى موسكو ان الغرب خدعها في ليبيا.
هذا يعني، باختصار، ان الدم العربي مرهون لسنوات طويلة بعد من النزيف طالما لم يحصل التلاقي الفعلي بين السعودية وايران. يعني، ايضاً، ان وظيفة «داعش» لم تنته تماماً للمسارعة في استئصالها. لا يزال لها دور، وخصوصاً في سوريا، حتى لو كان التنسيق الاستخباري قائماً، مباشرة او عبر اطراف اخرى.
أوباما يريد ضمنياً التعاون مع الاسد حتى لو قال العكس. مصلحة اميركا تقتضي ذلك الآن. قطع رأسي الصحافيين الاميركيين مهّد الرأي العام لمثل هذا التعاون. أُبلغت دمشق قبل فترة أن الضرب فوق ارضها سيجري بالتنسيق معها، حيث للدولة وجود، لكن الرئيس الاميركي محرج امام حلفائه في المنطقة. هو يدرك انه لا يستطيع انهاء «داعش» من دون التعاون مع الجيش السوري، ولكنه، على الارجح، سيجرّب عدم التعاون في المرحلة القريبة المقبلة، على أمل انتاج قوة على الارض تشبه البشمركة. فماذا سيفعل الاسد وايران وروسيا لدفعه الى خيار التعاون؟ من المهم جداً مراقبة الارض في الاسابيع المقبلة. وفي هذه الارض ما قد يتمدّد صوب لبنان.