Site icon IMLebanon

داعش: عقوبة أم انتحار؟

يعاقبون العروبة بالإسلام؛ ويعاقبون الإسلام بالعروبة؛ فكأن العروبة عبء على الناس في إسلامهم؛ وكأن الإسلام عبء على الناس في عروبتهم. لا هذا ولا ذاك. كل منهما، أي العروبة والإسلام، وجود تاريخي مرتبط بوجود المجتمع العربي؛ العروبة مرتبطة باللغة والإسلام دين المجتمع. يقول الإنتروبولوجيون إنه لا مجتمع من دون لغة ودين. ولا لزوم للدخول في مناقشة حول التنوّع أو الأقليات؛ ففي أحضان اللغة العربية لغات وإثنيات أخرى، وفي أحضان الإسلام جماعات دينية أخرى. وهذه كلها لها حق بالتعبير عن نفسها ووجودها؛ وفي ذلك إغناء للثقافة. التنوع على مدى التاريخ مزية إيجابية لا سلبية.

الإيديولوجيات القومية أو الدينية شيء آخر. هي أفكار، أو تراكم أفكار وأوهام، تعبّر عن أهواء أصحابها. وهي تصعد وتهبط حسب الظروف السياسية والمراحل التاريخية. لكن الإيديولوجيا تنفجر في وجه أصحابها عندما يندفع منطقها إلى حدوده القصوى؛ وعندما تمتنع التسوية أو تُرفض. انفجرت الإيديولوجيا القومية باحتلال الكويت، عندما غزاها صدام حسين باسم القومية العربية (أو القطرية العراقية؛ والأمر سيان). وتنفجر الإيديولوجيا الإسلامية بإعلان الخلافة. وفي الحالتين إهمال لشأن الدولة والسياسة وإعلاء لشأن الأمة والثقافة. في تعبير الأمة ـ الدولة، يزول الاثنان عندما تأخذ الدولة مكاناً ثانوياً بالنسبة للأمة.

راهناً، يتساءل الجميع حول داعش. هل هي تركيبة سياسية ـ مخابراتية عابرة مؤقتة، أم هي تعبير عمّا هو اجتماعي يمثل تيارات طويلة المدى؟

تختزل داعش، أو تتضمن، جوانب من جميع التيارات الإسلامية السابقة، من الإخوان المسلمين، إلى حزب التحرير الإسلامي، إلى السلفية، إلى الوهابية، وحتى الصوفية المقاتلة (وغير صحيح الرأي الشائع أن الصوفية حركات روحية صرف، وأنها لا تقاتل ولا تستخدم وسائل العنف المادية). وغير صحيح أيضاً، الاعتبار أن داعش لا سابقة لها في المجتمعات الإسلامية. مهدوية الموحدين في المغرب العربي استخدمت الأسلوب نفسه. ولا تعزية في القول إن شعوباً أخرى، في كل أنحاء العالم، ارتكبت مستويات من العنف لا تقل وحشية. عشرات ملايين البشر ذبحوا أو قتلوا في انتفاضات الصين في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكل ذلك باسم الإيديولوجيا. والأمثلة الأخرى على ذلك كثيرة.

وقد ساهمت الأنظمة العربية جميعها، وحتى الدول الإسلامية الأخرى، في قيام داعش؛ بعضها بالمال، بعضها بالسلاح والذخيرة، وبعضها بالرجال والنساء، إلخ… لكنها جميعها انضمت إلى الحلف العالمي للحرب على الإرهاب. استفادت هذه الأنظمة من ذلك لإعلان تطهير نفسها والظهور بمظهر البراءة. واستفادت أيضاً بدعم الحليف العالمي من أجل البقاء في السلطة.

وكل ما سبق ذكره يشكّل مقدمة للسؤال التالي: ماذا عن الدعم الشعبي بالمال والإيديولوجيا لداعش؟ والجواب على هذا التساؤل يقرّر ما إذا كان الأمر ظاهرة عابرة أم طويلة المدى. مَن لديه الجواب فليتفضل. التفسير بأن داعش تعبير عن أزمة المعيشة والبطالة والفقر، هو تبرير مرفوض سلفاً، إذ إنه كان بالإمكان انتهاج وسائل وأساليب أخرى. أحياناً يكون التفسير البريء المقاصد تبريراً لجرائم ترتكب بالنيابة عن المجتمع. من غير المقبول إدانة المجتمع، لكن الارتكاب باسمه أمر مرفوض. لا شيء يمكن أن يفسّر هذا العنف المنظّم سوى اعتبارات العقوبة أو الانتحار.

إذا كانت داعش نتيجة مؤامرة خارجية، فإن هذا لا ينفي أن يكون الوعي السائد لدى هؤلاء فاسداً وأن يكونوا هم أداة طيّعة بيد الغير. والأداة الطيعة ليست من دون إرادة. أو على الأقل قابلية. على كل حال، إذا كانت المؤامرة بمثل هذا الاتساع فإنها تلغي نفسها. المؤامرة بالتعريف هي قرار، أو حصيلة قرار يتخذه أناس معدودون في غرف مغلقة. لنفترض أن في هذه المؤامرة عقوبة يفرضها الغير على المجتمع، أو يفرضها المجتمع على نفسه.

وإذا كانت داعش تعبيراً عن تيارات اجتماعية، فإن في الأمر قابلية واستعدادا للانتحار. شهدنا في منطقتنا الكثير من العمليات الانتحارية. بعضها اعتبر استشهادياً وبعضها اعتبر تكفيرياً. أما الانتحار الجماعي فهو مسألة أخرى. هل وصلنا إلى ذلك؟ وهل معنى ذلك أنه ليس لدى هذا المجتمع خيارات أخرى.

تعني السياسة تعدّد الخيارات. فهل انعدمت الخيارات الأخرى لدى مجتمعنا؟