Site icon IMLebanon

دماء مغنية ترسم معادلات إقليمية جديدة (3)

دماء مغنية ترسم معادلات إقليمية جديدة (3)

بصمات «الحاج رضوان».. عند شاطئ الفرات

ما إن مرّ أسبوع على سقوط الموصل، حتى انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور لقوات زعم خصوم إيران أنها لعناصر من «الحرس الثوري» الايراني، بالقرب من مطار بغداد وفي سامراء وغيرها، وقد سارعت بعض مراكز الدراسات الاميركية التي ترصد الحركات الجهادية الى تداول هذه الصور على أساس انها لعناصر ايرانية. غير ان التدقيق بالصور يدلل انها لمقاتلين من «كتائب حزب الله في العراق.»

قبيل أشهر قليلة من حرب تموز 2006، شهدت أروقة بعض لجان الكونغرس الأميركي مداولات تمحورت حول دراسة صادرة عن «معهد راند»، الذراع البحثي لوزارة الدفاع الأميركية، تطرح عقيدة «قطع الأذرع» في التعامل مع ايران، وتمت الاشارة الى «الجماعات الخاصة» في العراق كجزء من هذه الأذرع، ليستخدم الاحتلال الأميركي لاحقا هذا المصطلح للإشارة الى مجموعات مرتبطة بإيران تقوم بعمليات نوعية ضد قواته.

لم يكن عمل هذه الجماعات في بداياته يحظى بمتابعة وسائل الاعلام العربية كما ساهمت حداثة التجربة في عدم نقل حقيقة تأثير العمليات على الاحتلال، الى أن باتت عمليات هذه المجموعات منذ العام 2007 في طليعة احصاءات تقرير «مؤشر العراق» الصادر عن معهد «بروكينغز» شهريا.

ظروف التأسيس ودور مغنية

عشية غزو العراق في العام 2003، بدأت تنظيمات عراقية اسلامية مناوئة لنظام صدام حسين في التفكير بتأسيس أطر عسكرية لخوض حرب استنزاف ضد الاحتلال، على ان تشكل، في الوقت نفسه، رافدا للعملية السياسية في بلد يتأرجح فيه المزاج الشعبي بين الرغبة في التخلص من الديكتاتورية والحذر من أهداف الاميركيين.

وبحكم العلاقات التاريخية لهذه التنظيمات وكوادرها مع ايران (ينتمي معظمهم الى «فيلق بدر»)، تقاطعت الحاجة العراقية مع المصلحة الايرانية في تأسيس تنظيمات عسكرية تحاكي نمط «حزب الله» في لبنان.

وسرعان ما انطلقت عجلة التواصل بهدف نقل تجربة «حزب الله» اللبنانية الى العراق. وبالفعل قدمت وفود عراقية الى لبنان واطلعت على خبرات كان دور القيادي الحاج عماد مغنية محوريا فيها.

في 23 تشرين الأول 2003، انفجرت عبوة ناسفة بآلية للجيش الاميركي قرب مخازن الاسمنت شرق القناة في العاصمة بغداد (الشارع الخلفي لمقر الأمم المتحدة). لاحقا، تكرر هذا النوع من العبوات، وظل التكتم سيد الموقف لدى الاحتلال من جهة والجهة المنفذة من جهة ثانية، الى أن أعلن السفير البريطاني السابق في العراق وليام باتي في تشرين الأول 2005 أن ايران تزود العراقيين بـ«تقنيات مميتة».

احتاج الاميركيون الى سنوات عدة لفهم التركيبة العراقية وللبدء بالتمييز بين الفصائل المسلحة وانتماءاتها الفكرية والعقائدية وأساليب عملها.

خلال حرب تموز 2006، شهد العراق عمليات نوعية تبنتها مجموعات متفرقة (كتائب كربلاء، كتائب زيد بن علي، كتائب علي الأكبر، كتائب السجاد وكتائب ابو الفضل العباس) وأدرجتها في خانة «دعم المقاومة اللبنانية».

وفي كانون الثاني 2007، فوجئ الأميركيون بعملية استهدفت مركز التنسيق الأمني في كربلاء حيث قُتل خمسة جنود للاحتلال، وفي 21 آب من العام نفسه، أعلنت هذه الكتائب العراقية المقاومة عن نفسها ببيان موحد باسم «كتائب حزب الله ـ العراق».

اعتقال دقدوق.. وعملية كربلاء

نفذ الأميركيون عمليات اعتقال لقادة وكوادر في المقاومة العراقية (بينهم الشيخ قيس الخزعلي مؤسس تنظيم «عصائب أهل الحق» المنفصل عن «التيار الصدري»)، وتم الإعلان عن اعتقال اللبناني علي موسى دقدوق في محافظة البصرة باعتباره «احد المسؤولين عن التخطيط لعملية كربلاء»، في مطلع 2007، وهي محطة ينبغي التوقف عندها من زاوية الحديث عن بصمات «الحاج رضوان» عراقيا.

فقد تقرر اسر جنود أميركيين أو بريطانيين بهدف تأمين إطلاق سراح معتقلين عراقيين، فاختارت القيادة العسكرية لـ«عصائب أهل الحق» عشرات المقاتلين من جسمها الجهادي المتفرغ، وبعض عناصر التعبئة العسكرية، وتبين أن معظم هؤلاء ما كانوا على علم بالهدف الحقيقي للعملية، واقتصر دورهم على تأمين الحماية لموكب «الأسرى» على امتداد الطريق بين بغداد وكربلاء، وعلى هذا الأساس، تم توزيع المقاتلين وفقا لمجموعات منفصلة عن بعضها البعض.

خضعت القوة الضاربة لتدريبات على عملية الأسر على مدى أسابيع وتم تجهيز مواكب شبيهة بمواكب الضباط الاميركيين، وتوزعت المجموعة الرئيسية المؤلفة من 40 مقاوما على 4 مجموعات: مجموعتا اسناد، مجموعة هندسة لزرع العبوات ومجموعة الاسر.

وصل موكب المقاومة المموه الى الدائرة المحيطة بمركز التنسيق الأمني في كربلاء، تتقدمه سيارات أميركية رباعية الدفع تضم كل واحدة منها خمسة مقاومين، وتعلو كل واحدة منها هوائيات وأجهزة اتصالات ورشاشات «بي كا سي»، كتلك التي تحملها السيارات العسكرية الأميركية، بعدما سلكت الطرق ذاتها التي تسلكها المواكب الأميركية.

مع وصول الموكب الى مدخل مركز التنسيق الأمني في كربلاء، توجه مقاومان نحو سيارتي «هامر» عند بوابة المركز، ورميا رمانة يدوية على كل منهما. تبين أن القنابل قتلت معظم جنود السيارتين، وعلى الفور اقتحم موكب المقاومة المموه مدخل المركز وتوجه مباشرة الى باحة المبنى، حيث تمت عملية اسر أربعة جنود أميركيين كانوا فيه، إلا أنهم قُتلوا لاحقا أثناء مطاردة قادها الاحتلال برا وجوا عند أطراف بلدة «المحاويل» على بعد 30 كيلومترا شمال «الحلة».

وقد وصف قائد القوات الأميركية يومها الجنرال دايفيد بترايوس العملية بـ«المعقدة والنوعية»، وعند اعتقال اللبناني علي موسى دقدوق والخزعلي وآخرين، أعلن الجيش الأميركي أنه عثر على خطط ورسوم وخرائط تفصيلية مشيرا الى أن دقدوق «مُكلف بتنظيم المجموعات الخاصة المدعومة إيرانيا لتحاكي في أساليبها طريقة عمل حزب الله».

مرة أخرى، ثبت أن الحاج عماد مغنية أحد العقول المؤثرة في إدارة مفاصل الصراع من قلب إسرائيل حتى شاطئ الفرات.

وتشهد قاذفات «بي 29» المضادة للدروع واختراقات المقاومة العراقية لبث الطائرات من دون طيار والعبوات المموهة التي خبرها الإسرائيليون جيدا في جنوب لبــنان على أســاليب عماد مغنــية. حينها، وصف الناطق باسم الاحتلال الجنرال دايفيد برغنر كتائب «حزب الله» بأنها «أبرز فصيل يهدد استقرار العراق»، وتم ادراجها على لائحة الارهاب فضلا عن اتهام «حزب الله» اللبناني بتقديم الدعم والتدريب والسلاح لها.

وخلال الأسبوع الأول الذي تلى اغتيال مغنية في 12 شباط 2008، تعرضت قواعد الاحتلال الأميركي في بغداد لقصف بصواريخ من أنواع عدة كُتب عليها «ثأرا لدم الشهيد الحاج عماد مغنية».

هذه «الجماعات الخاصة» التي كانت نتاج تخطيط ورؤية استراتيجية ساهم «الحاج رضوان» مليا بها، تشكّل اليوم رأس الحربة في مواجهة «داعش» في العراق، ويتبين يوما بعد يوم حجم تأثيرها في مجريات الصراع المفتوح.

بعد شهادة عماد مغنية، تظهر أهمية استراتيجيته في انشاء «جيوش رديفة» على امتداد خطــوط المواجهة تحسبا لأيام تنقلب فيها التحالفات.