Site icon IMLebanon

دمشق وطهران اذ تقتربان من نهاية حبل الأكاذيب

الحديث الايراني عن «مبادئ الديموقراطية» و «التعدّدية» جاء أكثر هزلاً من انتخابات بشار الأسد نفسها، ولم يبقَ سوى أن يحاضر «الحرس الثوري» عن المفهوم الايراني للتعدّدية التي بطش بها. لكن ناطق الخارجية الروسية لم يذهب الى هذا الحد بل اعتبر الانتخابات «حدثاً مهماً يضمن استمرار عمل مؤسسات الدولة»، نعم الدولة التي «تحرّر» المدن من شعبها وتهجّره ولا تنوي استعادته. أما ناطق الخارجية الصينية فشدّد على أن «الحل السياسي هو المخرج الوحيد»، نعم انه الحل الذي يريد الاسد فرضه فرضاً. أما التهنئة من كوريا الشمالية فتتحدّث عن نفسها ولا تستحق أي تعليق، لكنها تلفت الى الرسالة الأخطر التي بعثتها انتخابات الاسد الى العالم وهي أنه تمكّن في تكرار «سياسة الاستعباد» وتجديدها، وفي إظهار القطيع مغتبطاً بالمستبد به.

بمعزل عن الإخراج المسرحي ينبغي الاعتراف بأن الخدعة الانتخابية التي نجح فيها النظام كانت في نشر الكثير من الكاميرات للإيحاء بكثافة الإقبال على التصويت. لكن أحداً لا يعرف ما الذي حدث وراء الكاميرات، فمناطق سيطرة النظام مقفلة ولا يدخلها سوى الإعلام التابع له أو لإيران. في استفتاءات سابقة لم يكن النظام ليهتم بمَن يأتي أو لا يأتي للتصويت، كان يحرص فقط على حدٍّ أدنى من المظاهر. هذه المرّة اختُصر كل شيء بالمظاهر: مرشح واحد بثلاثة وجوه، ناخبون متلهّفون للإدلاء بأصواتهم، ومصوّتون يقولون على الهواء ما لقِّنوه تحت الهواء… لم يكن صعباً إبلاغ كل ناخب في مناطق النظام أن مَن يُقاطِع يُحاسَب، وفهم كل مَن لم يتخذ موقفاً علنياً مع الثورة أن رماديّته لم تعد مقبولة ولا بدّ له من تأكيد ولائه للنظام أو يصبح عرضة لانتقام «الشبيحة». وبعد اعلان النتيجة كانت «النصيحة» بالنزول الى الساحات والإنتشاء بفوز الاسد. طبعاً كان هناك من فرحوا حقاً واحتفلوا، وهم معروفون، لكن المرغمين على الاحتفال أقبلوا أيضاً «بكثافة». لا جديد البتة في هذه المسرحية، ويعرف العديد من اللبنانيين الشيء الكثير عنها، حين كان الجنود السوريون يوقفونهم ويجبرونهم على دخول خيام الاحتفالات للرقص والهتاف «مبايعةً» للاسد الأب كـ «مرشح» وحيد في الاستفتاء الرئاسي.

يعرف النظام قبل سواه أنه يتبادل النفاق مع ناخبيه، لكن المهم عنده أن تبدو العملية متقنة، كما لو أنها ودٌّ طبيعي متبادل بين حاكم ومحكوم، قامع ومقموع، قاتل ومقتول. فالمحكوم يخجله أن يُضبط وهو ينافق علناً، والمقموع يخاف المزيد من المهانة، والمقتول يعجز عن توجيه أصبع الاتهام الى قاتله الذي خرج اسمه للتو من صناديق الاقتراع وكأنه مُنح صك براءة. يعرف النظام أيضاً أن هذا الاقتراع مجرد كذبة اخرى سبق له اتقانها لكن الصور تجعلها أشبه بالحقيقة، أما الصور التي نشرت حقائق مروّعة عن جرائمه فغدت أشبه بالكذبة طالما أنها لم تستطع إقلاقه ولم تحرّك المجتمع الدولي لمحاسبته. قد يحلو للاسد أن يذكّر بما توقّعه لمعركة الاعلام حين قال مطلع 2013 أن «إعلام الأرض» سيهزم «إعلام الفضاء»، بل يحقّ له الاعتقاد بأن العالم يحب الأكاذيب التي حشد الكثير من الناس لصنعها، فالتخويف والترهيب والابتزاز والتعذيب تمارس قبل التصوير. ويعرف النظام كذلك أن «المؤامرة» وقواها الخارجية كذبة اخترعها ونجح في تضخيمها، فبعدما تجاهل تماماً شعب سورية عاد فاعترف بوجوده كـ «شعب من الارهابيين» في مواجهة «شعب من الناخبين» الموالين والمحتفلين بفوزه. وهكذا وضع العالم أمام واقعَين يصعب فيهما التمييز بين الكذب والحقيقة، أو المفاضلة بين الاستبداد والارهاب، وقد ساهم في صنعهما معاً.

انطلاقاً من صناديق الاقتراع، الى الكذبة – الحقيقة التالية اذاً: فالنظام سيطرح حلاً سياسياً أخذت طهران على عاتقها مهمة ترويجه، معتقدةً أنها أفضل من يسوّق «حكومة جديدة» من صنعها أو يشارك فيها بعض زبائنها من «المعارضين» المزيّفين جداً والمستوزرين جداً جداً. وكما تتوقع طهران أن يصدّق الايرانيون كذبة أن مفاوضات الـ 5+1 ستتيح لها الاحتفاظ ببرنامجها النووي من دون تعديل، فإن إعلامها («اللبناني») يظن أن السوريين سيصدّقون كذبة تجاوز نظام الاسد الأزمة الداخلية وشروعه في ترميم «دوره الاقليمي». وعندما يقول حسن نصر الله ان الحل السياسي «يبدأ وينتهي مع الاسد»، فإنه يتوقع عملياً مراقبة حركة فَكَّيه بدقة اذ يقصد أن الحل يبدأ وينتهي «مع ايران». لكن نصر الله يدرك أن ايران لا تبني خياراتها على وقائع افتراضية، وأنها غير منفصلة عن الواقع الى حدّ تصديق «الدعاية العقائدية» التي تستخدمها لتضليل الآخرين فحسب. صحيح أن ايران استطاعت وضع يدها على النظام وترغب في بقاء الاسد بل تشيد بـ «شرعيته» التي عززتها الانتخابات، إلا أنها موقنة بصعوبة الحفاظ عليه بالقوة فوق الدمار الذي أحدثه، وباستحالة ابقائه على رأس شعبٍ لا يريده حتى بالتفاوض – دعكَ من مهزلة الانتخابات، فما تراكم عليه داخلياً وخارجياً جعله غير مقبول. وهذا يرتّب عليها مراجعات سياسية وحتى عسكرية.

ثمة حقائق لم تستطع ايران تغييرها عندما دفعت الميليشيات اللبنانية والعراقية الى القتال لترجيح ميزان القوى على الأرض لمصلحة النظام، أي لمصلحتها. صحيح أنها حققت ما خططت له، لكن نتيجته تؤدي الى مرحلة استنزافية طويلة ولا تنتج «حلاً سياسياً». وأهم تلك الحقائق أن الأزمة لم تكن عسكرية في الأساس، اذ أمكن لدمشق وطهران أن تتأكدا مراراً بأن الاحتضان الاقليمي للمعارضة المنفية قسراً ومساعدة العسكريين المنشقّين اضطراراً بقيا في حدود المتوقع ودون مستوى تشكيل خطر حقيقي على النظام، بل تأكدتا خصوصاً بأن التدخل الخارجي أو «السيناريو العراقي» غير واردين، ولمستا أن «الفيتو» الروسي – الصيني بدّد أي ضغوط لمجلس الأمن على النظام. كانت الأزمة تتطلّب من النظام مراجعة سريعة وعميقة لسلوكه مع الشعب، وعندما برهن أنه يرفضها ولا يستطيعها انكشفت مكامن قوته وضعفه في آن: اذا أوقف العنف يسقط، واذا ذهب الى حل سياسي حقيقي يسقط، واذا صعّد في القتل والتدمير لا ينتصر، واذا استعاد السيطرة على كل سورية لا يوقف الحرب، واذا طرح «عملية سياسية» فإن وجود الاسد كفيل بإفشالها، واذا رحل الاسد وزمرته تنفرط «الدولة» والمنظومة الأمنية كما في ليبيا، واذا بقيا فإن عقل النظام لا يستوعب نقلاً تدريجياً للسلطة…

على خلفية هذه الاحتمالات الواقعية يفترض أن ايران وعت أن مشكلة النظام هي النظام نفسه أولاً وأخيراً، وبالتالي فهي مدعوة الى حرب طويلة، والى ادارة «دولة فاشلة» متأرجّحة بين موبقات الصوملة والأفغنة والعرقنة معاً. وعدا أكلاف التورّط الشامل في سورية سيصعب عليها، مع اقتراب مفاوضاتها السياسية مع الولايات المتحدة والسعودية، اقناع أحد بأنها ذهبت بعيداً في التخريب واصطناع الصراعات فقط من أجل أن تثبت أنها ستكون منذ الآن عنصر استقرار اقليمي. فكما أن باراك اوباما أخذ بالتحليل الاسرائيلي (لم تفصح عنه هيلاري كلينتون بل قالت في كتابها الجديد أنها تفهّمت رؤية الرئيس وقبلتها) الذي ينصح بعدم التدخل والحفاظ على الاسد ما أمكنه البقاء في منصبه والاستمرار في تدمير سورية ومكافحة سيطرة الاسلاميين، فإن اوباما المتلاطف مع طهران أخذ أيضاً بالشق الآخر من التحليل الذي يرى مصلحة في توريط ايران سواء لتأمين دعم مالي وعسكري للاسد أو لإغراق نفوذها الذي تدّعيه في صراعات مع العرب ومناحرات مذهبية بلا أفق ولا نهاية.