كان لا بدّ للزلزال «الداعشي» في العراق أن تظهر عوارضه في البلدان القريبة. فالمنطقة التي تعيش احتقانَ المواجهات المذهبية باتت شوارعُها مهيّأة للتجاوب مع دعوات الجنون والغريزة.
واشنطن أفسحت المجال أمام الثأر السعودي من النفوذ الايراني في العراق
هكذا صدَرت الإشارات السريعة من لبنان حيث الاختلاط العجيب ما بين الجموع الناقمة من جنسيات متعدّدة لبنانية، فلسطينية، سورية، عراقية وحتى خليجية، وتركّزت الأنظار على الأردن الذي يسيل لعاب «داعش» والمتشددين للتغلغل في تركيبته المتناقضة، إلّا أنّ الذين رعوا «الانفجار» في العراق، وضعوا لائحةَ أهدافٍ سياسيّة لا تتَّفق بالتأكيد مع طموح «داعش» وإيديولوجيّتها.
والمقصود هنا تحديداً الولايات المتحدة الأميركية الساعية إلى الإفادة من الزلزال الحاصل. وعلى قاعدة «مكيافيل» القائلة بإفساح المجال لخصمك لكي يَقتل خصمك، فيما تتولّى أنتَ جَمع النتائج الإيجابية لصالحك، أفسحت واشنطن المجال أمام الثأر السعودي من النفوذ الإيراني في العراق بعد أيام على الانتهاء من الانتخابات التي منحت نوري المالكي قاعدةً شعبيةً عريضة ستُمهّد له الطريق للعودة الى رئاسة الحكومة، ولو مع بعض التحالفات المطلوبة.
لكنّ شعور الانتصار الذي عمَّ دول الخليج بعد انهيار الجيش العراقي، وتفكّك سلطة حكومة المالكي في المناطق ذات الغالبية السنّية لم يتطابق مع الأهداف الأميركية، وهو ما جعل الأوساط الديبلوماسية الأميركية تصف ما حصل بالانتصار المزيّف، ذلك أنّ واشنطن صاحبة القرار الفعلي في العراق تتَّجه الى تحقيق أهدافها وأهمّها:
1- إستعادة قرار الرقابة العسكرية المباشرة والصارمة ولو من باب السماء العراقية، ما يعني بدء مرحلة تعاون وشراكة عسكرية أميركية – إيرانية في العراق على أنقاض مرحلة الأحادية الإيرانية.
2- إعادة صوغ الاتفاق الأميركي – الإيراني ولكن وفق أحجام جديدة فرضتها التطورات الميدانية الأخيرة. فالتواصل الجغرافي ما بين طهران وجنوب لبنان بات مهدّداً في العراق ما يدفع بالمحافظين في إيران إلى خفض سقفهم السياسي، إضافةً الى إنجاز التسوية بسرعة أكبر تداركاً للوقت، مع التأكيد أنّ لا رجوع عن التسوية الإيرانية – الأميركية.
3- إلزام الأكراد وإيران والسعودية، كلّ من موقعه، التعاونَ ميدانياً لدحر «داعش»، بعدما وصل خطر المتشددين الى حدودهم، وبالتالي إرتفاع مخاطر هزّ الاستقرار الداخلي لهؤلاء.
4- سعي واشنطن إلى إزاحة المالكي في مقابل قطع الطريق على مرشّح السعودية أياد العلاوي، ما يعني في النهاية وصول شخصية مستقلة أو وفق التعبير اللبناني شخصية «وسطية».
5- الدفع إلى إنجاز ترتيب يتضمَّن خطوطاً عريضة للوضع السوري يسمح بالدخول مجدداً في مؤتمر «جنيف 3»، وذلك على قاعدة إعادة توزيع السلطة على مستوى الحكومة، على طريقة «طائف سوري» مع الإقرار ببقاء الرئيس بشار الأسد أقلّه في هذه المرحلة، والحفاظ على التركيبتين العسكرية والأمنية للنظام.
لذلك، هناك مَن يَصف ما حصل في العراق بالانتصار المزيّف، ولذلك أيضاً سارع وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل الى لقاء نظيره الروسي سيرغي لافروف والتلاقي على رفض أيّ تدخل خارجي، أي أميركي في العراق. لكنّ موسكو القلقة على أمنها من المتشددين قد لا تملك كثيراً من هامش الحرية للدخول في مناورات واسعة.
ولاحتواء أيّ تمدّد «داعشي» سريع ناحية الجوار الاردني، أرسلت واشنطن خبراءَ متخصّصين في شؤون الإرهاب، مهمّتهم حماية السلطة الملكية الأردنية، وأرفقت ذلك برسائل حازمة، خصوصاً تجاه الفلسطينيّين بأنّ العرش الملكي الأردني خط أحمر أميركي. وتروي مصادر ديبلوماسية مطلعة أنّ واشنطن تواصلت مع حركة «حماس» ما أثمر التزاماً «حماسوياً» بالمساعدة في حماية العرش واستقرار المملكة.
على الصعيد اللبناني حيث تستمرّ واشنطن ومعها العواصم الغربية في مراقبة الساحة اللبنانية الأمنية وحركة المتشدّدين الوافدين اليها والمسافرين منها، تركّزت الأنظار على تداعيات العراق على الاستقرار الداخلي وتحرّكات النازحين السوريين والكوادر الفلسطينية. وفيما تُضاعف هذه العواصم الغربية من تعاونها الأمني والعسكري مع لبنان، عملت واشنطن على الشروع أكثر في برنامج تسليح الجيش حيث تُسجل حركة ناشطة على هذا الصعيد.
لكنّ العاصمة الأميركية التي تُدرك أنّ الخلل على المستوى السياسي قد يؤدي الى هزّ الساحة الأمنية المضطربة أساساً مثلما حصل أخيراً، لا تزال متمسّكة بانتخاب رئيس جديد للبنان قبل الخريف المقبل، وتحديداً قبل حصول تمديدٍ ثانٍ لمجلس النواب. وفيما تتّجه لأن يكون رئيس الحكومة العراقية «وسطياَ» وتسعى إلى إعادة توزيع السلطات في سوريا، فإنها باتت تؤيد وصولَ رئيس جمهورية من الفريق الوسطي في لبنان.
وكشفت مصادر ديبلوماسية غربية أنّ واشنطن شجعت تيار «المستقبل» على فتح قنوات التواصل المباشر مع «حزب الله» للتفاهم على الملف الرئاسي. ذلك أنّ واشنطن القلقة من موجة تفجيرات تُحضّر للبنان، تبدو واثقة من عدم وصول الوضع الى حدود الانفجار الشامل أو كما كان سائداً خلال الصيف الماضي أو الذي قبله، فهل هذا يعني أنّ الرئيس المقبل سيولد على الحامي؟