Site icon IMLebanon

رئيس لم ينتخبْه أحدٌ!

 

كأنها جملة من المفارقات الكوميدية السوداء (أو الحمراء) تلحظها بلا جهد، ترافق عدداً من الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، في لبنان وسوريا والجزائر ومصر وأوكرانيا وفي العراق.. جنونٌ «تاريخي« يعصف بكل مخيلة أو منطق أو حساب، أو تحليل، يمكن وببساطة مُريحة أن تنسبها إلى أفلام الخيال العلمي، أو الخيال غير العلمي، أو الأساطير الواقعية، أو الواقع الأسطوري.

نبدأ في لبنان: مجلس نيابي مُنتخبُ لا يريد أن ينتخب رئيساً. أو الأحرى، مجلس نيابي يريد أن ينتخب رئيساً لا ينتخبه أحد. لا أحد. رئيس يُولد بالصدفة من خارج المجلس النيابي. هذا المجلس الذي انتُخب لكي ينتخب لا يريد أن ينتخب. هكذا يريد حزب «بني ساسان« في لبنان. الترشح «تحدّ» والتقدم ببرنامج تَرَشُّح معصية. وحضور جلسات الانتخاب «خيانة» كأنما الشعب الذي انتخب هذا المجلس خوّله ان يُحيّد نفسه عن هذه «العملية» الانتخابية «الانتحارية».. بمعنى آخر: كأن تتم الانتخابات بالطريقة الديموقراطية، خروج على الميثاق والدستور… هكذا يقرر حزب الله! ذلك ان هذا الحزب المذكور شأنه شأن «الطغاة» هو الذي يريد أن ينتخب وحده الرئيس ويفرضه على البرلمان. تماماً كما كان الطغاة ينتخبون شعوبهم، بدلاً من أن تنتخبهم شعوبهم. رئيس حزبي بمواصفات حزبية، وبتقاسيم حزبية يُفرض على المجلس النيابي بكل فئاته وطوائفه وأحزابه. مونولوغ طويل من مسرحيات اللامعقول، ومن قصائد السوريالية. من انتخابات بلا رئيس. إلى رئيس بلا انتخابات. حزب خامنئي في لبنان، يمنع اجراء العملية الانتخابية التنافسية، التي تُعبّر عن تعددية، وتنوعية وبرامج عمل، ويقود بنفسه (ووراءه إيران) مجريات الانتخابات الرئاسية في سوريا!

هنا يسقط الحزبُ النظامُ (والكيان) والدستور، وفي الوقت نفسه، يتبنى انتخابات رئاسية في سوريا سقط النظام فيها، انتخاب نظام «ساقط» في سوريا، واسقاط نظام قائم في لبنان، في اللحظة ذاتها وربما في الأمكنة ذاتها، وبالألسن ذاتها تجري مفارقات خيالية لا يؤديها سوى حزب لم يعد سوى مجموعة من التناقضات والمفارقات والعجائب: انتخابات في سوريا بدون «ناخبين» ولا انتخابات في لبنان مع توفر الناخبين. تسعة ملايين سوري هجرهم النظام وأعوانه من المتطرفين الاسلاميين وميليشيات حزب الله والعراق بطريقة وحشية، بالقصف العشوائي بالبراميل المتفجرة وبالغازات السامة والكلور والكيماوي والطائرات والدبابات والمجازر الجماعية يوحي الحزب انهم «جاهزون» للانتخابات في لبنان والأردن والعراق وتركيا وأوروبا… بكل ثقة. بل وبكل لهفة واقتناع للرئيس الأسد. ومجلس نيابي مفتوح في لبنان، ممنوع ان ينتخب فيه أحدٌ احداً. هنا في لبنان يخوّن الحزب من يريد أن ينتخب، وفي سوريا… يؤيد الحزب انتخابات لا تبصم الا بالدم. ونظن أن الحزب في الحالتين يهرب إلى الأمام، النظام السوري في «اجرائه» هذه المسرحة الانتخابية يظن انه يكرس نفسه في غياب الدولة والنظام والتنافس. واشتداد الصراع المسلح وهنا يهرب الحزب إلى الأمام بتهريبه عملية الانتخابات الرئاسية كما يُهرّب المخدرات واللحوم الفاسدة والأدوية المزورة. هناك في سورريا يسعى الحزب بانخراطه في هذه اللعبة الجهنمية إلى ان يكرس الانقسام المذهبي والطائفي والمجتمعي والسياسي والحربي وعندنا، هنا يسعى بمنعه الانتخابات الرئاسية أيضاً إلى تعميق الانقسام المذهبي والطائفي عندما يطفو فوق الوقائع الاجتماعية، والظواهر الديموقراطية. في سوريا يهربُ النظام إلى الأمام بفرض شرعية لنظام لم يعد موجوداً، وهنا يهرب الحزب إلى الأمام بفرضه رئيساً فاقد الشرعية. في سوريا، يؤكد النظام «وجوده» الحضاري الشكلي في انتخابات وهمية، وعندنا يؤكد حزب الله سقوط النظام اللبناني في انتخابات رئاسية وهمية. وفي الحالتين عودة إلى الوراء. في الانتخابات الرئاسية السورية تريد العودة إلى ما قبل الثورة الشعبية أي ترسيخ حكم الحزب الواحد (أو ما تبقى منه) والعائلة الواحدة (أو ما تبقى منها) وعندنا يريد الحزب العودة إلى ما قبل ثورة الأرز، حفظاً لمنطق الوصاية. في سوريا يتقدم النظام إلى الانتخابات فوق الدماء، والجثث والخراب والتهجير والقتل وعندنا يرفض الحزب الانتخابات الرئاسية فوق الخراب الاقتصادي والسياسي والأمني والتهديد بالسلاح. في سوريا ينتخب النظام نفسه بالسلاح والإرهاب، وعندنا يريد الحزب ان ينتخب نفسه أيضاً (في مسألة الرئاسة) بالارهاب والتهديد. وفي اللحظة التي يردد فيها جماعات الحزب في لبنان تمسكهم برئيس تنتخبه المقاومة «المرحومة» نجد ان النظام السوري يشكك أيضاَ بانتخابات لا ينتخبه فيها سوى الموتى والمهجرين والضحايا. عندنا يريد الحزب أن يُحوّل الحياة السياسية إلى «جُثة» وفي سوريا… يبدو ان الجثث هي «الناخب» الأكبر. في سوريا، يتهم النظام 80 بالمئة من السوريين بالارهاب (وعلى هذا الأساس تم تهجيرهم وتدمير منازلهم وسجن كثيرهم بعشرات الألوف) وعندنا يتهم الحزب أكثر من نصف الشعب اللبناني بالخيانة. ويمكن هنا مقارنة ما يجري في سوريا ولبنان بأوكرانيا: انتخابات شرعية ديموقراطية تسقط النظام القديم يقابلها النظام الروسي البوتيني، بحرب «اثنية لغوية»: بوتين يهدد الرئيس الاوكراني المنتخب بأكثرية شعبه، ويقوم بانقلاب في القرم لتدمير الدولة. ومحاولة تقسيم البلاد وحزب الله يدعم النظام المنهار في سوريا ويقاتل أكثرية الشعب السوري: العقل الانقلابي المشترك يجمع بين النظام الروسي والنظام السوري… وحزب الانقلابات المسلحة في لبنان (7 أيار والقمصان السود). بوتين يريد أن «يقطع» رأس النظام الشرعي وحزب الله يريد أن يقطع رأس الجمهورية في لبنان. بوتين يهدد أوكرانيا بالحرب والشرذمة بمنطق «أوراسي» او «عنصرية لغوية». (الروسية) وحزب الله يهدد لبنان بالويل والكانتونية بمنطق مذهبي! أف! فما أروع هذين المنطقين. بوتين يريد استعادة مجد الإمبراطورية الروسية الستالينية أو القيصرية (بالمعنى المذهبي الارثوذكسي) وحزب الله يريد كجندي من جنود ولاية الفقيه ان يدعم مسعى إيران لاستعادة مجد (الامبراطورية الساسانية الآرية قبل هزيمتها «المظفرة» في القادسية، واحتلال العرب المسلمين لها. وايران تجري انتخابات رئاسية لكي لا يكون هناك رئيس (بوجود المرشد) وتؤيد النظام المنهار في الانتخابات السورية، لتستولي عليه. قطع الرؤوس هو العامل المشترك. ويمكن ان نضم هنا إلى اللائحة العراق: فرض المالكي رئيساً يعني أن يبقى العراق برئيس ايراني! أي ان يبقى العراق بلا رئيس عراقي. (نتذكر هنا اميل لحود). ويمكن أيضاَ التطرق إلى الوضع الجزائري: رئيس مريض ينتخبه النظام لكي ينتج نفسه، بلا رئيس، أو في انتظار «تجهيز» رئيس ينتجه النظام. في سوريا تريد ايران انتاج نظام بلا رئيس يقع تحت وصايتها (كما حال وصاية مرشد الثورة على الرئيس الايراني المنتخب). وفي لبنان يريد حزب الله ان ينتج نظاماً على صورته، أي نظاماً بلا رئيس!

عدنا إذاً إلى فكرة ان ينتج النظام بديله من النظام ذاته. أي عودة إلى العالم القديم. نظام بلا شعب حر، ولا ديموقراطية ولا تعددية ولا منافسة وبلا فصل سلطات، أي نظام الرأس الواحد لكن هذه المرة أنظمة الرأس الواحد كأنها باتت بلا رأس. فايران تظن ان النظام السوري الذي تهاوى صار بلا رأس، وبلا سلطة، وبلا تمثيل، تحل محله كما تحاول أن تفعل في لبنان بواسطة حزبها الأثيري. من الرؤوس الكبيرة في أزمنة الطغاة إلى الرؤوس الاصطناعية اليوم. وهذا ما يفسر استعجال بعض المسؤولين الايرانيين باعتبار سوريا ولبنان والعراق ولايات فارسية. وهذا ما يفسّر اعتبار ان ايران (الآرية الجذور) باتت واثقة من هذه الأمور في البلدان الثلاثة إلى درجة تصريح بعض مسؤوليها بأن نفوذها توسع إلى الحدود الجنوبية في مواجهة اسرائيل (لتتولى هي اي ايران حماية الحدود الشمالية للدولة العبرية كما فعل النظام السوري في الجولان). وعندما يظهر هؤلاء المسؤولون الإيرانيون هذه الوقاحة، ازاء اللبنانيين فيعني انهم مطمئنون إلى ان النظام اللبناني والكيان الذي يحتضنه والجمهورية التي تحضن الاثنين لم تعد موجودة مستندين إلى ان حزب الله نجح في قطع الرؤوس التمثيلية للجمهورية: عطلّ مجلس النواب باعتباره صار مجلساً خاصاً بايران أو مجلساً انتجته ايران، ومعطلاَ الحكومات، ثم معطلاً رئاسة الجمهورية التي باتت في نظر الايرانيين رئاسة من التابعية الايرانية، هذا ما يحاول ان يفعل بوتين في أوكرانيا، وسبق ان فعله في جورجيا. وما قد يفعله في بعض الجمهوريات «السوفياتية» السابقة! انها لعبة «الأواني المستطرقة»! لكن حسابات ايران واقعة في «البلاغية» الفارغة والشكلانية وفي المنطق «الاستعلائي» واللاتاريخي. فانتخاب رئيس اليوم في سوريا هو قمة اللاانتخاب. واذا ظهرت ايران (ورضيعها حزب الله) ان عملية الانتخابات هذه هي اشارة من اشارات النصر تكون مخطئة جداً. على العكس فانتخاب نظام سقط يعني تأكيد سقوطه. واستمرار الثورة السورية بهذه الحدة والضراوة والبسالة هي الاشارة الدامغة التي تضيء على الظلمة التي تُعمي على الظلمة التي تنعش ايران والنظام السوري. وسياسة «بعث» الموتى قد تصلح في الأمور الالهية لكنها باطلة في الأمور السياسية. ونظن ان هذا الخطأ الاستراتيجي يكمن في اعتبار ايران ان ما يجري في سوريا هو مجرد معارك وطائرات وقصف وقتال بين الميليشيات والجيش متناسين ان ما يجري في سوريا ثورة شعبية. (يتعاملون مع الشعب السوري كما يتعاملون مع ثورة الشعب الايراني ضد ولاية الفقيه والملالي). هذا الخطأ في الحسابات مرده إلى عماء النظام الايراني، وإلى تعطشه المحرور، ليكون «شرطي المنطقة» (كما كان يُتهم الشاه الايراني في حكمه) وإلى تكوينه الخرافي. فهو يظن انه يفكر عندما لا يفكر. ويتعامل بحنكة مع الواقع عندما يغلب عليه الغباء التاريخي والجغرافي والديني. وهذا ما فاجأه في لبنان عندما ظن ان مراحل الحزب تبدأ بالمقاومة في الجنوب وتستمر «بالمقاومة» لاسقاط النظام اللبناني وتغيير بنيته وتعطيل مؤسساته وفرض الوصاية عليه تمهيداً لضمه إلى «سجنه» الفارسي الكبير. ثورة الأرز خربت كل حساباته الهمايونية… ولو كانت الانتخابات (وصناديق الاقتراع) هي وحدها الحل لما كان ادى التمديد القسري لاميل لحود. إلى ثورة الأرز. ولو كانت «استراتيجة» القتل والاغتيالات ناجعة لما كان اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري صنع انتفاضة 14 آذار. وعلى هذا الاساس فان مظان حزب الله بأن مجرد انتخاب رئيس جمهورية على طريقته، يؤكد هوية سيطرته وسلاحه الميليشيوي وسقوط في أوهام اخرى. فمصادرة صناديق المجلس النيابي لا تعني مصادرة الشعب. فالشعب اللبناني هو أكبر من هذه الصناديق وأكبر من عملية انتخاب. والجمهورية (على الرغم من واقعها) هي واقع تاريخي، وكياني، لا يمكن تفكيكها بهذه السهولة. والدولة العميفة من الصعب تدميرها والكيانات السياسية والمذهبية والاجتماعية ارسخ من أن تبددها محاولة تعطيل انتخاب رئيس او تعطيل مجلس نيابي، او اسقاط حكومة. هذه كلها حواش في متن أصلب وأقسى يفوق بقوته ارادة حزب الله المتطفلة والطفولية والطحلبية!

لكن يبدو في العمق، ان استمرار محاولات هذه الأنظمة الاستبدادية اختراع شعوب جديدة وفبركة انتخابات على قياسها وان تمدد القمع من بلدانها إلى ابعد منها ليست سوى محاولة هروب من «حضور» الشعب. والقمع هو هروب إلى الامام. التزوير هو هروب إلى الأمام. فالشعب اليوم، في حالة استنفار ضد هؤلاء الاستبداديين في سوريا وروسيا وايران. وهذا ما يقض مضاجعهم ويدفعهم إلى قمع «روح» الشعوب المنتفضة. ونظن ان سعيهم إلى اجراء انتخابات رئيس سوري في نظام ساقط، وفي ثورة قيد النضال والجهاد هو هروب إلى الأمام! ودافع الى تمسك الثوار بثورتهم وبمواجهاتهم وبحقهم في الدفاع عن شرعيتهم في السلطة وفي كل نظام. حزب الله «نظم» حشود «المنتخبين» النازحين في لبنان ، لبشار الأسد، بممارسة ضغوط عليهم وتخييرهم بين الذهاب والتصويت لقاتلهم وبين اعادتهم وعائلاتهم الى سوريا، او باستخدام المال الإيراني في هذه العراضة المفبركة التي لا تمثل برغم ضغوطاتها وتغطيتها «الملفقة» المنفوخة من بعض صحافة ايران في لبنان سوى نوع من الهروب إلى الأمام: هذه العراضات في لبنان لا «تبعث» شرعية النظام المفقودة وصحافة «الأجاويد» في لبنان لن تنقذ رئاسة، باتت اليوم، وبكل وضوح بلا رئيس! والغريب ان الصحافة التي تروج للفراغ، وتحرض على عدم انتخاب الرئيس في لبنان «تنتخب» الرئيس السوري! هذه هي صحافتنا اليوم : ايقاع لبنان في الفراغ واسقاط شرعية الشعب في سوريا! وأخيراً: ماذا قد ننتظر من رئيس لا ينتخبه أحدٌ في سوريا وآخر ينتخبه سلاح حزب الله في لبنان؟! انه الهروب إلى الأمام! بل الهروب إلى الوراء لأن حزب الله والنظام السوري هما.. من صُنع الوراء فكيف لهما حتى الهروب إلى الأمام!

بول شاوول