العلاقة بين الدستور وقانون الانتخاب هي علاقة مصير، فقانون الانتخاب هو الذي ينتج السلطات المنوط بها تطبيق هذا الدستور، فإذا أنتج القانون مجلساً نيابياً أدى أدواره التشريعية والرقابية والمالية والانتخابية بأحسن ما يكون ولاحق الوزراء المقصرين وفقاً لصلاحيته القضائية في هذه الحالة يمكن الحكم على صحة القانون المطبّق وجدوى الاستمرار باعتماده.
أما إذا تحقق العكس حيث كثرت التشريعات المخالفة للدستور وارتفع الدين العام ارتفاعاً فاضحاً غير طبيعي وتحررت الحكومة من رقابة المجلس فلا طرح ثقة بوزير، نسمع بالمخالفات المرتكبة والفساد المستشري ولا نرى مديراً عاماً معزولاً من موقعه بل على العكس، يمدد له وكأن أمراً لم يحدث،… في هذه الحالة نسأل هل أحسنّا باختيار قانوننا الانتخابي؟
وتزداد أهمية هذا القانون عندما يكون النظام الدستوري للدولة يميل نحو المجلسية أي هيمنة مجلس النواب على بقية المؤسسات الدستورية كالنظام اللبناني بعد التعديلات الدستورية لعام 1990 الذي يرتكز على قوة البرلمان حيث تضمّن الدستور تغييراتٍ في تكوين السلطات وصلاحياتها، مانحاً التفوق لمؤسسة مجلس النواب التي يناط بها وظيفة كبرى متمثلة بممارسة الرقابة الشاملة على سياسة الحكومة وأعمالها”، وفق حرفية العبارة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني.
وتعزيزاً لقوة البرلمان جرى حجب صلاحية رئيس الجمهورية بإقالة الوزراء وانتهى عملياً التفويض التشريعي الذي كان يستخدمه رؤساء الجمهورية في العمليات الإصلاحية، وتحولّت السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء المنبثق عملياً عن مجلس النواب.
بعد عام 1990 وبسبب اختلاف طبيعة النظام السياسي ما بين مرحلتين من تاريخ لبنان، لا يصح لا بالمنطق ولا بالحيثيات الواقعية والقانونية أن يستمر العمل بقانونٍ انتخابي يعود تاريخ طبعته الأولى لزمن الانتداب، ولهذا لا بدّ من صياغة قانون انتخابي جديد ينسجم مع التكوين الجديد للسلطات الدستورية في لبنان، وهذا ليس خياراً تقدم عليه السلطة ولا من باب الترف السياسي إنما هو واجب دستوري فرضته بصيغة الأمر وثيقة الوفاق الوطني، وإن لم نفعل فهذا يعني أننا عن قصدٍ أو غير قصدٍ مستمرون في منع تكوين السلطات وفق الأصول الدستورية مع ما يعينيه ذلك من استمرار الأزمات الدستورية والسياسية.
فإلى أي نظام ودوائر انتخابية يقودنا الدستور والوثيقة؟ لقد حسمت وثيقة الوفاق الوطني شكل الدائرة الانتخابية، حيث ورد في هذه الوثيقة مرتين ذكر المحافظة كدائرة الانتخابية، المرة الأولى ضمن بند الإصلاحات السياسية وردت العبارة الآتية: الدائرة الانتخابية هي المحافظة.
وفي المرة الثانية في بند الإصلاحات الأخرى وردت العبارة الصريحة: تجرى الانتخابات النيابية وفق قانون انتخاب جديد على أساس المحافظة”، مع الإشارة إلى أن الوثيقة تقصد بالمحافظة تلك الدوائر الكبرى قبل إعادة إنشاء محافظات جديدة، بعد عام 1990 لا تتطابق مع المعايير التي فرضتها الوثيقة لإعادة النظر بالتقسيم الإداري بما يسهم في تحقيق الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك.
ولهذا فإن الدائرة الانتخابية وفق القانون الانتخابي الجديد هي المحافظات الخمس، أو محافظات جديدة تكون أكثر مراعاة لقواعد الانصهار الوطني والعيش المشترك.
وبعد أن ثبت بالنص القطعي الدلالة أن المحافظة هي الدائرة الانتخابية المقررة وفق قانونٍ له قوة النص الدستوري، ومستبعدةً بالتالي أي شكلٍ من أشكال الدوائر الأخرى، وطنية أو فردية أو قضاء أو غيره..، فما هو النظام الذي يتلاءم مع الدائرة- المحافظة.
أولاً: إن التجربة اللبنانية منذ عام 1990 حتى اليوم أثبتت فشل النظام الأكثري وفق الصوت الجمعي (أي نظام الاقتراع للقائمة المعتمد في لبنان منذ عام 1957) في إنتاج مجلسٍ نيابي قادر على ممارسة وظيفته الكبرى المتمثلة بممارسة الرقابة الشاملة على سياسة الحكومة واعمالها”، وفق حرفية العبارة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني.
ولهذا وعملاً بالمبدأ الدستوري: أن انتظام أداء المؤسسات الدستورية هو أساس الانتظام العام في الدولة (م.د. قرار رقم 7 تاريخ 28/11/2014) فإنه يقتضي استبعاد النظام الأكثري وفق الصوت الجمعي لفشل المجالس النيابية المنتخبة على أساس هذا النظام في تأدية صلاحياتها وفق ما ذكرناه.
منذ 1990، أثبتت التجربة اللبنانية فشل النظام الأكثري
ثانياً: إن النظام الأكثري على أساس الصوت الجمعي يخرق مبدأ المساواة سواءً بين الناخبين أو حتى بين المرشحين، هذا المبدأ الذي أكّد عليه المجلس الدستوري في قراره رقم 4/96 تاريخ 7/8/1996 الذي ربط فيه صدقية النظام التمثيلي بالمساواة في حق التصويت، مقرراً المجلس أن: “الانتخاب هو التعبير الديموقراطي الصحيح والسليم لا يكون كذلك إلا إذا تأمنت من خلاله المبادئ العامة الدستورية التي ترعى الانتخاب، ولا سيما مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون”.
وأن المادة 24 من الدستور قد أوجبت أيضاً أن يكون قانون الانتخاب ضامناً للمساواة بين المسيحيين والمسلمين ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين وبين المناطق، وهاتان المساواة والتناسب لا يمكن تحقيقهما إلا باعتماد النظام النسبي الذي هو في جوهره بحث عن التناسب الذي يعدّ فلسفياً أحد أوجه العدالة.
ثالثاً: إن الفقرة ج من مقدمة الدستور تنص على أن لبنان جمهورية ديموقراطية، والديموقراطية لا تعني مجرّد القيام بالعملية الانتخابية، بل تعني توفير فرص المنافسة الحقيقية بين المرشحين وتوفِّر الظروف لمشاركةٍ جدّيةٍ للناخبين، لذا وبمجرّد أن تكون الانتخابات صورية فلا تعد انتخاباً لأنها تحرم الناخب من ممارسة حريته باختيار من يمثله.
فالديموقراطية لا تشترط التداول الحتمي للسلطة بل تشترط حتماً توفير فرص المنافسة الحقيقية بين القوى السياسية في الوصول إلى السلطة فإذا غابت فرص المنافسة تفتقد هذه العملية لطابعها الديموقراطي.
وقد تبيّن أن المنافسة كانت شبه غائبة عن الانتخابات التشريعية في لبنان باستثناء بعض الدوائر ذات الخصوصية، أما في ظل النظام النسبي فإن المنافسة هي جدية بين المرشحين وأن فرص الفوز للوائح المتنافسة قائمة وأن الناخب يؤدي دوراً مشاركاً في تكوين السلطة ولا يكون الناخب مجرّد أداة إعطاء شرعية على نتائج محسومة سلفاً.
رابعاً: إن الفقرة ط من مقدمة الدستور التي نصّت على أن لا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، تشكّل مانعاً يحول دون اعتماد قانون انتخابي يسمح لكل طائفة أن تنتخب نوابها، لأن هذا النوع من التمثيل الشعبي، ولا سيما في بلدٍ مثل لبنان، سيؤدي إلى زيادة التباعد بين أبنائه ويوصل إلى عدم الاستقرار السياسي، وهذا الفرز للشعب يتعارض مع فلسفة الوثيقة التي أوجبت في البند ثالثاً إعادة النظر في التقسيم الاداري بما يؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك، فالانصهار الوطني لا نصل إليه إلا من بوابة إنهاء فرز اللبنانيين. لهذا فإن النظام النسبي على أساس المحافظات الخمس الكبرى هو الصورة الأمثل لتطبيق مبدأ لا فرز للشعب على أساس أي انتماء وصولاً إلى الانصهار الوطني.
خامساً: إذا كانت غاية الوثيقة تحقيق الانصهار الوطني، فإنها وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية أقرت قواعد مساندة أبرزها المبدأ الوارد في الفقرة” ي من مقدمة الدستور التي تنصّ على أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.
يثبت الواقع أن المجتمعات ذات التعددية الدينية، تميل إلى التعايش، والعامل المؤثر في قيام علاقات تعايش راسخة، هو تحقيق المساواة وعدم تسلط مجموعة على أخرى والاعتراف بالآخر. على عكس ذلك، يؤدي التمييز والتهميش أو إقصاء أحد المكونات إلى ظهور نزعات انزوائية وارتفاع الشعور بالغبن والاضطهاد.
ولقد أثبتت التجارب الانتخابية في لبنان أن النظام الأكثري على أساس القائمة هو نظام إقصائي تهميشي أدى إلى عزل مكونات سياسية وازنة، وهو بهذه النتيجة قد مسّ بالصميم قواعد العيش المشترك، ما يوجب العزوف عنه واعتماد نظام الاقتراع النسبي الذي بتعريفه وخصائصه يسمح بإشراك كل فئات الشعب بما فيها الأقليات ببناء الدولة،
وكذلك يتميز بقدرته على استيعاب كُلّ الأحزاب السياسية الهامّة في المجلس التشريعي الجديدِ، بغض النظر عن كيفية انتشار أو تجمُّع قاعدتهم الشعبية، ما يجعل النسبية أداة فعالة في ضمان العيش المشترك الممهد للانصهار الوطني.
استناداً إلى هذا العرض، نخلص للقول إنه وإن كان الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني لم يذكرا النظام النسبي مباشرةً كنظامٍ انتخابي، إلا أن المعطيات أعلاه تقود حتماً إليه.
(كلمة ألقيت في مؤتمر «من أجل قانون انتخاب وطني على أساس النسبية الكاملة» المنعقد في الأونيسكو بتاريخ 26 كانون الثاني 2017)
*أستاذ القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية