الحرب المعلنة ضد لبنان تضيف المزيد من المشاهد الكئيبة إلى المشهد العربي العام. ففتح جبهات متعددة ضد القوات اللبنانية المسلحة يزكي صواب الصورة التي رسمها قائد الجيش اللبناني، العماد جان قهوجي، حول الخطة الموضوعة للنيل من لبنان ولجره إلى ساحة الحروب الدينية والمذهبية التي تجتاح المنطقة. ولعلها ليست بالمصادفة الكبيرة أن تنفتح الحرب في الأراضي اللبنانية في نفس المرحلة التي تتصاعد فيها حرب تصفية المسيحية الشرقية خاصة في العراق. وإنزال الخسائر البشرية الفادحة بالمؤسسة التي تجسد استمرارية الدولة اللبنانية وبما تستند إليه من قيم الديموقراطية وروحية الميثاق الوطني اللبناني واحترام التعددية الثقافية، يتم في نفس الوقت الذي تعلن فيه الحرب ضد الرموز التاريخية للحضارة العربية التي احتفت بالتنوع وحافظت عليه لقرون عدة.
هذه الصورة خطرة وبشعة، ولكن فيها بعض الإيجاب. إنها وفرت للقيادات السياسية اللبنانية فرصة للإعراب عن موقف موحد تجلى في تأييد القوات المسلحة اللبنانية وفي الدعوة إلى دعمها والالتفاف حولها. سواء عبر هذا الموقف عن قناعات حقيقية تملكها جهة تمثل اللبنانيين، أم عن «حكمة» أملت عليها تأييد الجيش مسايرة للرأي العام فان النتيجة واحدة: أن موقفها هو مؤشر على نظرة اللبنانيين إلى الجيش وإلى الدور الذي يقوم به. في كافة الحالات، ينبغي عدم الاستخفاف بأهمية الدعم المعنوي والسياسي للجيش اللبناني. انه، في حده الأدنى، «تحييد» لأصحاب الدعم، وضمانة ولو شكلية لعدم طعن الجيش في ظهره وهو يخوض معركة الدفاع عن لبنان وعن نظامه الديموقراطي وتنوعه المجتمعي.
إضافة إلى الدعم السياسي والمعنوي الذي تقدمه القيادات السياسية اللبنانية فان الجيش يحتاج اليوم كما يحتاج كل يوم وكما احتاج بالأمس إبان معركة مخيم البارد وكما أعلن قائد الجيش، إلى السلاح المناسب وإلى الذخائر وإلى أدوات القتال وعدّته حتى يتمكن من صد الهجمات المتكررة ضده. فليس معقولاً ولا مقبولاً أن يفتقر لبنان إلى العتاد، بينما يمتلك المعتدون والإرهابيون الذين يتجوبون في المنطقة العربية آخر أنواع الأسلحة وأشدها فتكاً. وفي ضوء هذه الحاجة فان من الضروري أن تبذل فرنسا أقصى ما يمكن من الجهد في إرسال السلاح الذي مولته السعودية إلى الجيش اللبناني. ومن الضروري أن تبذل الحكومة اللبنانية كل مسعى لحث الحكومة الفرنسية على إعطاء هذه المسألة الأولوية. إن لبنان، بعد كل حساب، لا يخوض معركته فحسب وإنما أيضاً معركة كل الدول والمجتمعات والأوساط الدولية الحريصة على نشر مبادئ الديموقراطية والتعددية الثقافية في منطقة المتوسط. ومن المأمول أن يساهم السلاح الفرنسي الصنع في تعزيز قدرة القوات المسلحة اللبنانية على صد اعتداءات الإرهابيين وعلى تفكيك خلاياهم وإنهاء مشاريعهم في لبنان. ولكن هل يكفي الجيش الحصول على السلاح وحده؟
تلجأ الدول التي تواجه ما يواجهه لبنان من تحديات مصيرية إلى إقرار زيادة عديد القوات المسلحة عن طريق خدمة العلم. ويلجأ العديد من الدول الصغيرة التي تواجه مثل هذه التحديات إلى اعتماد استراتيجية الدفاع الوطني الشامل من أجل حماية السيادة والاستقلال والوحدة الترابية للبلاد كما هو الأمر في سويسرا وسنغافورة وغيرها من البلدان المشابهة. لبنان لا يطبق هذه الاستراتيجية، ولم يعد يطبق ركيزتها المتمثلة بخدمة العلم منذ أن تم إلغاؤها عام 2005. منذ ذلك التاريخ لم يعلن أي تفسير لهذا القرار إلا ما صرح به رئيس لجنة الدفاع والأمن البرلمانية اللبنانية في وقت لاحق إذ قال بأنه اتخذ «تلبية لرغبات الآلاف من المغتربين اللبنانيين لأنه عرقل أعمالهم في بلاد الاغتراب وحال دون إكمال البعض منهم دراسته الجامعية»!
حدد نقاد خدمة العلم مواقفهم بالاستناد إلى اعتبارات رئيسية مثل اثر التجنيد الإجباري على مستوى القوات المسلحة القتالي. لقد لاحظ عدد منهم، على سبيل المثال، أن تطبيق خدمة العلم يؤدي إلى انخفاض مستوى الانضباط بين الجنود، وإلى تراجع روح المبادرة لدى المجندين كما حصل في تركيا. كما لاحظ منتقدو خدمة العلم أنها تؤدي إلى انقسام الجيش إلى فريقين: واحد مكون من المتطوعين الذين يدخلون الجيش الذي يتحول إلى محور طموحاتهم وآمالهم الاحترافية والشخصية وحافزاً لاكتسابهم المهارات العسكرية. الفريق الآخر يمر بالجيش مروراً عابراً وموقتاً فلا يهتم بتنمية معارفه وتدريبه العسكري. ويشعر أفراد هذا الفريق من المجندين بالغضاضة بسبب انخفاض رواتبهم، فعندما كانت كوريا الجنوبية تطبق خدمة العلم كان المجند يتقاضى 10 في المئة فقط من الحد الأدنى للأجور المقررة في البلاد.
قدم المعنيون بأوضاع الأمن في الدول التي طبقت خدمة العلم حلولاً لهذه العثرات خاصة مع انتشار التكنولوجيا الحديثة، فقد تحولت فترة خدمة العلم إلى فرصة إضافية لتدريب المجندين على هذه الاكتشافات الحديثة ومن ثم على إغلاق الهوة بين المتطوعين والمجندين. ففي سنغافورة التي تعمل القوات المسلحة فيها كمدينة جامعية كبرى، لا يشعر المجند عند نهاية فترة الخدمة بأنه أضاع وقتاً كان يمكن إنفاقه في طلب العلم، بل يتخرج من الجيش وبيده شهادة تفتح له أبواب المستقبل. وفي كافة الأحوال لم تكن هذه الثغرات هي السبب الذي جعل عدداً كبيراً من الدول يتخلى عن خدمة العلم، وإنما كانت هناك أسباب أخرى لا ينطبق أي منها على لبنان. فهناك عدد من الدول تخلى عن خدمة العلم لأنه لم يعد يشعر بالتحديات والأخطار التي كان يشعر بها في الماضي، مثل الدول الأوروبية التي أصبحت تشعر بالكثير من الاطمئنان بعد قيام الاتحاد الأوروبي. وهناك عدد من الدول، مثل فرنسا، ألغت خدمة العلم لأنها شعرت أنها بحاجة إلى جيش قليل العدد كثير الفاعلية صالح لإرساله إلى خارج البلاد وحيث لفرنسا مصالح قديمة ترغب في الحفاظ عليها.
إن حاجة لبنان إلى خدمة العلم لم تتراجع ولا بقيت كما كانت عليه يوم ألغي القانون، بل تفاقمت كما نشهد اليوم. فنحن لسنا «قطعة من أوروبا» حتى نشعر بالأمان والاطمئنان، بل نحن جزء من منطقة تشتعل وتنخرط بكل أنواع الصراعات المسلحة، ولا نملك إلا أن نحصن أنفسنا ضد من يعمل على حرمان لبنان من سيادته الوطنية ومن انتمائه العربي. ولسنا نخال أياً من اللبنانيين يريد تطوير القوات المسلحة اللبنانية حتى تصبح أداة للتدخل في الخارج بغرض الدفاع عن مصالحه «الإمبريالية» كما هو الأمر مع بعض الدول الأوروبية. بل نريد توفير كل أسباب الدعم لهذه القوات حتى تتمكن من صون السيادة والوحدة الترابية والنظام الديموقراطي.
كان يوم إلغاء خدمة العلم يوماً مشؤوماً في تاريخ النخبة السياسية والمؤسسة العسكرية في لبنان. المطلوب اليوم هو التراجع عن هذا القرار وإلغاء مفاعيله عبر خطوتين متزامنتين:
أولاً: التعجيل في وضع قانون جديد لخدمة العلم يتضمن أخذاً في الاعتبار الملاحظات والانتقادات الموجهة إلى القانون القديم والإسراع في إقراره.
ثانيا: إطلاق حملة واسعة لحث اللبنانيين واللبنانيات على دخول الجيش.
هذا أقل ما نقوم به إذا أردنا بالفعل ترجمة بيانات التأييد الصادرة عن مختلف الكتل والأحزاب والجماعات السياسية في البلاد، وإذا أردنا التغاضي عما تتضمنها أحياناً من مساع مؤسفة لاستخدام تضحيات القوات المسلحة اللبنانية كوسيلة للتطاحن السياسي الداخلي.
* كاتب لبناني