Site icon IMLebanon

سبع سنوات والجرح «وليد».. ساعته

 

 

أنار وليد عيدو باستشهاده شاطئ المنارة وبحر بيروت الدافئ والأحبّ الى قلبه عصر ذاك الأربعاء المشؤوم 13 حزيران 2007. سبع سنوات مرّت على اغتيال القاضي والنائب «أبو خالد» ونجله البكر خالد، وكانت المرة الأولى التي يرافقه فيها في سيارة واحدة، وعدد من المدنيين أمام مسبح «السبورتنغ» في تفجير هزّ لبنان وخطف صقرا من صقور قوى 14 آذار. في نظرة دقيقة الى الأحداث التي طغت على الساحتين اللبنانية والعربية في السنوات السبع تلك، يتبيّن بأن الشهيد «الخالد» كان ممسكا بالمسار القضائي الذي اتّبعته المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، كيف لا وهو المتمرّس بالعمل القضائي وصاحب مقولة «لا يوجد نصف حكم ولا نصف حقّ». سبع سنوات ولم تجفّ دموع العائلة ولم تطفأ أوجاع الوالدة المفجوعة على زوجها وولدها.. والمسامحة غير واردة.

في الخامسة والنصف عصرا، تخرج سيارة من المسبح في رأس بيروت، فيها النائب وليد عيدو وابنه خالد ومرافقان. أول الطريق صعوداً إلى خارج المنطقة الهادئة، في وسط الطريق بين ملعب نادي النجمة ومدينة ملاهي بيروت تنفجر عبوة ناسفة قاتلة، لا تخرج من دائرة التصفيات التي تلاحق كل معارض للنظام السوري منذ محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أواخر العام 2004.

ينتقي القاتل طريدته باحترافية إجرامية ظنّ بأنها تخدمه.. فلا اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري أرجع الى الوراء ساعة طرد النظام السوري من لبنان، ولا اغتيال الصحافي سمير قصير عطّل انطلاقة الثورة السورية ولا اغتيال القاضي وليد عيدو أوقف مسار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.. في الواقع أن قتل عيدو في تلك المرحلة لم يكن يعبّر سوى عن خوف الظالمين من المحكمة، وعن خطر الكلمة الحرّة التي تهدّد مشروع المجرمين، ففي حديث له قال عيدو: «أنا تركيبتي القضائية تجعلني أقول الحقيقة. في العدلية لا يوجد نصف حكم ولا نصف حق. ولا تستطيع أن تصدر حكما وأنت محير بين الموافقة والرفض. وهذا الطبع القضائي يلعب دوره في موقفي السياسي، فأقول كل الحقيقة أحيانا وبشكل جاف وقاس، إنما بشكل مطلق لأنني لا أناور، وأنا أعتقد أن قول الحقيقة وتسمية الأشياء بأسمائها، أهم من الإمساك بالعصا من النصف».

الدنيا من حول لبنان تغيّرت بكاملها.. لا بدّ أن الشهيد التقى رفاقه الشهداء، فأخبروه عمّا تبدّل، عن وصاية من نوع جديد.. عن انتشار السلاح والرعب و»القمصان السود».. عن عمليات تحرير القدس عبر الهجوم على بيروت في 7 أيار 2008.. عن الربيع العربي واتّجاهه نحو إلغاء السلاح وإنهاء حالة إجرام النظام في سوريا وقتل الشعب والأطفال بالبراميل المتفجّرة.

«لماذا نخاف؟»

اغتيل عيدو. فاتّضحت صورة الهجمة على المحكمة الدولية حين حوّل مجلس الأمن ملف المحكمة الخاصة بلبنان إلى الحكومة اللبنانية لتقوم بالتصديق عليها. ولا يمكن تفسير عملية اغتيال وليد عيدو إلا كرد فعل من النظام السوري على قرار المحكمة الدولية التي كان لدمشق موقف سلبي منها، وأيضاً محاولة لدفع لبنان مجدداً باتجاه الفوضى الهدّامة والفتنة الداخلية. هذا الحدث ترافق مع الإغتيال ومع الهجوم الذي تعرّض له اللبنانيون والفلسطينيون من قبل جماعة ما يسمّى بـ«فتح الإسلام«، ترابط الاجرام المنظم مع كل خطوة يحاول فيها اللبنانيون حماية أنفسهم عبر القانون والقضاء الدوليين.

كان قدر وليد عيدو الإستشهاد بعدما التزم الدفاع عن لبنان وعن الخطّ الذي اقتنع بأنه الأقصر للمطالبة باستقلال وطنه. ناضل حتى اليوم الأخير من حياته على الرغم من إدراكه حجم الأخطار ومداها، وكان عيدو يقول في الجلسات الخاصة وحين يُطلب منه الانتباه إلى تحركاته «ان رفيق الحريري استشهد لأجل لبنان، فلماذا نخاف«. هكذا وفي كل الجلسات العامة والخاصة كان عيدو دائماً يتحدّث عن الشهيدين الحريري وباسل فليحان كأنه يريد إبقاء صورتهما أمامه. وهو يدرك أن الوقت الذي يمرّ قبل محاكمة المجرم فقط للشهادة. وهكذا كان.

لم يغب عيدو عن ساحة الحرية وكان جزءاً من ناسها ومن صانعيها، كان الرجل المحبّ والدمث الأخلاق، والمميز في نضاله وعدم خوفه من شيء، ساهم في ساحة الحرية مع شباب قوى الانتفاضة، وكان «دينامو« التحركات السياسية لقوى 14 آذار وأكثر ما يلفت به هو شجاعته الإستثنائية وجرأته في مواجهة المخاطر. وكان عيدو مؤمناً بالاختلاف السلمي وبالنضال من أجل الحريات العامة والخاصة، واحترام الرأي الآخر، وحماية لبنان وتثبيت استقلاله.

«لقد بدأ فجر الحرية يبزغ من جديد، كونوا قلبا واحدا، كونوا عقلا واحدا، كونوا يدا واحدة، من أبكانا دموعا سنبكيه دموعا بإذن الله والسلام عليكم».. هكذا أوصى وليد عيدو قوى 14 آذار بالوحدة وبالتماسك لتمرير مرحلة الإغتيال التي استمرت بإزاحة كل من يرفض منطق «الممانعة» في لبنان والخارج حتى نهاية العام 2013 باغتيال الوزير الشهيد محمد شطح.

لا لـ «الخطوط الحمر»

لا شكّ أن حلم عيدو بدأ يتحقّق في 16 كانون الثاني 2014 حين انطلق زمن العدالة الذي ناضل من أجله. كان الشهيد صلبا في مواقفه وفي دفاعه عن الخط السياسي الوطني الذي التزمت به قوى 14 آذار وناشطا في التحركات السياسية والنيابية خصوصا في لقاءات الثلاثاء في البرلمان التي نظمها نواب الأكثرية لمطالبة رئيس المجلس النيابي نبيه بري بفتح الدورة العادية للمجلس. ودافع عيدو عن الجيش اللبناني في معركته ضدّ «فتح الإسلام» في مخيم «نهر البارد« وهاجم منتقدي العملية التي قادها الجيش حينها.

وسارع عيدو فور إعلان الأمين العام لـ«حزب الله» عن الخطوط الحمر في مواجهة «نهر البارد« في 26 أيار 2007 الى الردّ عليه سائلا «هل من دولة في العالم تتفاوض مع مجموعة إرهابيين تعمل على اغتيال البلاد ونحرها؟» ولم يفته أن يؤكّد مرارا عروبته وعروبة بيروت والتزامها قضايا العرب.

نعم للمحكمة الدولية

شغلت المحكمة الخاصة بلبنان الشهيد وليد عيدو، وهو من الأصوات التي ما برحت تطالب بإقرار المحكمة الدولية حتى رأت النور في 30 أيار 2007، بعدما أصرّ في أكثر من موقف على ضرورة إنشائها في لبنان لكنه كان أيضا متحمّسا لإقرارها في مجلس الأمن تحت الفصل السابع في حال لم تقرّ في مجلس النواب، ورفض مقولة تسييس المحكمة وقال «إن كل مواطن سيُسمع أمام ملايين الناس لأن المحكمة ستكون علنية وهذا نصّ موجود في نظامها. فالمحكمة ستناقش الأمور وجاهيا وعلنا».. وهو تماما ما حدث.

لهذا فقط قُتل وليد عيدو. فلا يُمكن حتى لقاتله اتّهامه بالعمالة ولا بخلافات مالية وما شابهها للتعكير على مكمن الإستهداف الحقيقي وأسبابه، فوليد عيدو الوطني اللبناني والقومي العربي، والقاضي النزيه الذي يحترم القانون ويعمل بموجبه. كان اصطياده سهلاً لأنه لم يحترز ما فيه الكفاية، إذ كان يتردد باستمرار الى مكانه المفضل في مسبح «سبورتنغ» في منطقة المنارة، معتبراً أن من وصل الى رفيق الحريري يمكنه الوصول الى أي كان وخرق كل الإجراءات الأمنية المتّخذة.

وكان الشهيد مع الحوار الصادق البنّاء حتى لا تذهب دماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري هدراً، كان يؤكد دوما استعداده للجلوس والتحاور مع أي كان إلا مع العدو الإسرائيلي شريطة معرفة من قتله. كان ناصرياً مع جمال عبدالناصر وحريرياً مع رفيق الحريري ولم ير تناقضاً بين المشروعين في ما يتعلق بالعلاقة بين الوطنية والعروبة. اعتبر عيدو أن التمديد لإميل لحود مخالفة دستورية ووجوده في قصر بعبدا بمثابة احتلال لقصر الرئاسة. وفي آخر حديث له مع جريدة «الأنباء» الكويتية قبل ساعات من استشهاده أكد أنه «إذا لم تكن سوريا هي التي قتلت الرئيس الحريري سنكون الى جانب سوريا أثناء المحاكمة لمنع إدانتها«. في تلك الفترة إتهم عيدو المعارضة (قوى 8 آذار حينها) بأنها لا تريد شيئاً إلا إنقاذ سوريا من المحكمة الدولية وتنفيذ السياسة الإيرانية في عملية الشرق الأوسط وفي الموضوع النووي، واتهم النائب ميشال عون بأنه يعمل على شرق أوسط إسلامي جديد لا يعتقد أن جمهوره يؤيده في ذلك.

كان عيدو يصف السياسة بأنها قائمة على التجاذبات والمصالح والتقلّبات الدائمة ولهذا تأفف من السياسة وزواريبها اللبنانية الضيّقة وفضّل القضاء عليها، واعتبر «الجمهورية الثانية» أي «جمهورية الطائف» قامت على أُسُس مشوهة نتيجة الوصاية السورية والأجهزة التي أمسكت بكل شيء. ربطته علاقة جيدة جداً بالرئيس فؤاد السنيورة الذي وجده شخصاً مميزاً وقادراً على إدارة شؤون البلاد بكفاءة عالية مع شفافية وحرص على المال العام.

بين خالد والوالد

سبع سنوات والجرح في عائلة عيدو لم يندمل.. فالشهادة من أجل الوطن أصعب من أن تُنسى وخسارة فردين معا من العائلة ذاتها لا يمكن الإعتياد عليها وربّما لا يمكن التعايش معها. بنظر العائلة العدالة آتية لا محالة، فالخلفية التي تتناول فيها العائلة الأمور خلفية قانونية، والتربية القانونية والثقة بالعدالة موجودة في تربية الأبناء.

الوالدة عايدة تحتفظ بغرفة خالد، والزوجة «عيّود» كما كان يناديها الزوج، أبت أن تنام على الجهة التي كان ينام عليها زوجها الشهيد بل تركت النصف الثاني من السرير مرتباً وكأنها تنتظر عودته.. فالوالدة مرت بظروف نفسية صعبة قبل استشهاده لأنها كانت تشعر بأنه سيتعرض لمكروه.

أما خالد فالكل كان يحبّه.. لم يغضب أحدا ولا تشاجر مرة مع أحد. لم يكن يحب السياسة ابداً، ولكن من شدة خوفه على والده في الفترة الأخيرة كان يتابع تحركه مع العلم انه لم يكن يخرج معه في السيارة ابداً، وكان يقول له ممازحاً: «اذهب انت في سيارتك وأنا الحقك«. وكان الشهيد عيدو خائفا على مرافقيه: «انتم لديكم اولاد اطلعوا لوحدكم وأنا اذهب لوحدي«، فلم يكن يعرف متى سيتم اغتياله. وعندما صعد خالد مع والده في السيارة كانت تلك المرة الأولى التي يترافقان فيها معا حينما ذهبا ليعزيا بأحد الاشخاص.

زاهر لن يسامح

«لم تتبدّد الآلام ولم تنسَ العائلة هذه المأساة، الأيام لا تُنسي، كل يوم نشتاق لوالدنا الى جانبنا ولأخينا الكبير، خصوصا بعدما رُزِقنا بأطفال وتدرّجنا في أعمالنا.. نحن بحاجة الى سند يفرح لفرحنا» يقول زاهر عيدو ويتابع «أولادنا لا يعرفون «جدّو وعمّو» إلا في الصور».

وكأن الشابين زاهر ومازن تقاسما ثقل الشهادة فأسمى زاهر ابنه على اسم والده ومازن على اسم شقيقه. وللأول توأم: وليد وآية عمرهما سنتان وثلاثة أشهر، وللثاني: خالد ولانا ومنذ أسبوعين رُزِق بكريم. وعلى الرغم من صغر سنّهم فهم يعرفون «جدّو وعمّو» في الصور والفيديو، يقول زاهر «نخبرهم عنهما فيفرحون، نشرح لهم بأن جدّو كان بطلا، كان يخدم لبنان، واليوم هو يمكث في السماء عند الله، يعيش حياة جميلة وسعيدة.. «ولاد زغار شو بدي خبّرن».»

طبعا ليس هناك ما يعوّض الخسارة بالنسبة الى العائلة «ليس هناك ما يفشّ الخلق، المحاكمة الدولية مستمرة بعملها المحترف والدقيق، وقد كنتُ في لاهاي الى جانب الرئيس سعد الحريري وتابعنا التحقيقات لكننا نجهل التفاصيل وتوقيت الحقيقة خصوصا أن تلك التفاصيل تبقى سريّة حرصا على التحقيق، ومهما كانت النتيجة فإن ذلك لن يعيد إليّ أخي ووالدي، ومهما كان العقاب، ولو أُعدم القاتل، فأنا لن أسامح».

الخسارة تبدو أكثر ثقلا على الوالدة عايدة، فولداها قد ينشغلان قليلا في العمل ومع الأطفال، أما هي فتلازم المنزل طوال الوقت بين صور زوجها وولدها، وغرفة خالد على يمينها، وهي تنام في الغرفة التي كانت تتشارك فيها مع زوجها.. «كأنو القصة مبارح وهي متعبة لأن الحادثة تركت أثراً سيّئاً على صحّتها «كانت تتوجّع لوجعنا إذا مرضنا فكيف هي الحال إذا خسرت ابنها بهذه الطريقة البشعة؟ نحن نحاول مساعدتها طبيا قدر الإمكان لكنّها متعبة وليس سهلا عليها أن تتابع حياتها بشكل طبيعي».

هناك ما يبرد قلب زاهر «الحقيقة طالعة طالعة، والمحققون باتوا يملكون تفاصيل عن غالبية التفجيرات الإرهابية التي أودت بشهداء قوى 14 آذار لأنها بطبيعة الحال مترابطة ببعضها واستهدفت خطّاً وطنياً واحدا، لكن متى يصدر القرار بقول الحقيقة كما هي وعلى المفضوح؟ هذا ما نجهله».