واجهة «عبدالله عزّام» يتنقّل بين سوريا والعراق
سراج الدين زريقات.. من شيخ هادئ إلى إرهابي خطير
في مطلع العام 1990، ولد الابن الأكبر لعلي مصطفى زريقات في أحد المستشفيات خارج بيروت. وفي عمر التاسعة، شعرت العائلة أن ابنها الذي بلغ 9 سنوات بدأ يتردّد على مسجد «حارة الناعمة»، كملاذٍ للهروب من كلّ هموم الحياة. لم يكن علي ملتزماً دينياً، تماماً كزوجته (من آل المقداد من والد من بعلبك وأمّ من جبيل). جلّ ما في الأمر أن الزوجة والأولاد الأربعة (شابان وشابتان) يصومون ويصلّون بشكل متقطّع.
ومع ذلك، شجّعت العائلة ولدها بأن يتعمّق في تعاليم الدين الإسلامي. كان الولد لا يشبه أترابه، لا يدخل في إشكالات مع زملائه، إذ كان هادئاً ومهذباً وخجولاً فوق العادة، منكبّاً بشكل دائم على الدراسة والمطالعة الدينيّة. لديه قدرة كبيرة على الحفظ ويمتلك ذاكرة قويّة. الولد النجيب سريع البديهة كان يبلغ أقلّ من خمس سنوات، وهو يعرف كيف يعيد تركيب بعض الآلات الكهربائية في المنزل بعد أن يعمل على فكّ قطعها.
وبعد أن تنقّل في مدارس رسميّة في بيروت، نال بِكر علي زريقات شهادة «البروفيه» في العام 2004 من «مدرسة الناعمة الرسميّة». الشاب المتفوّق، الأوّل في مدرسته، رفض إكمال دراسته الثانويّة، وارتأى أن ينتسب إلى «أزهر لبنان». وبعد ثلاث سنوات، استطاع ابن الثمانية عشر ربيعاً أن ينال شهادة الثانوية العامة (تقديم حرّ) وشهادة بكالوريا في الشريعة من «أزهر لبنان» في العام نفسه.
عمر التاسعة عشرة، بالنسبة لابن علي زريقات كان حاسماً. ففي هذا العام، بدأ «الشيخ المتخرّج» عمله الخاص بافتتاح محلّ لبيع الهواتف الخلويّة في الطريق الجديدة (في شارع حمد)، وتأهل من إحدى النساء ذات الأصول السورية. سكن مع عائلته في بداية الأمر، قبل أن ينتقل للسكن في بيروت، حيث رزق بصبي. إعالته لعائلته ووالديه واخواته، أعاقت إكمال دراسته للحصول على الـ«ليسانس» بعد أن انتسب لكليّة الشريعة على مدى عامين.
خلال هذه الأعوام، عاش الشيخ عصره الذهبي. بدأ نجمه يسطع في مساجد بيروت. تقدّم إلى اللجنة المختصة في المديرية العامة للأوقاف الإسلامية باختيار خطباء الجمعة في المساجد، وسرعان ما أضحى أحد خطباء صلاة الجمعة في مساجد بيروت ويعطي الدروس الدينيّة فيها.
ابن العشرين عاماً، كان يتمتّع بذكاء حاد وكاريزما قويّة، ومتعمّقاً بالشريعة الإسلاميّة وماهراً في فنّ الخطابة والإلقاء وضليعاً في اللغة العربيّة الفصحى وقادراً على صوغ المسوّغات الدينيّة لإقناع الآخرين، إضافةً إلى هدوئه ودماثة أخلاقه.. جعلوا منه شيخاً قادراً على التأثير بمن حوله واستمالتهم، ليصير له مريدون وتلامذة يتردّدون عليه باستمرار.
تنقّل الشيخ في السكن في أكثر من منطقة، كان أوّلها بالقرب من «مسجد الفرقان» في برج البراجنة، حيث كان إماماً للمسجد قبل أن يتعرّض لـ«ضغوط سياسيّة» أعادته إلى الطريق الجديدة بالقرب من محلّه و«مسجد حمد» الذي كان فيه مساعد الإمام، غير أنّ ارتفاع أسعار الإيجارات جعله يعود أدراجه إلى حارة الناعمة حيث استأجر منزلاً في «حي الضباب» في المنطقة.
استغنى عن سيّارته اليابانيّة (قديمة الصنع) بعد تعرّضه لحادث سير قوي على طريق خلدة، ولم يستطع إقناع والده بأن يستخدم دراجته الناريّة للتنقّل من منزله إلى بيروت، لينتهي به الأمر بشراء سيارة أميركية الصنع (قديمة أيضاً) من أحد معارفه بالتقسيط.
وخلال هذه الفترة، طلّق ابن عائلة زريقات زوجته الأولى، وتزوّج من أخرى جزائريّة أنجب منها طفلة، قبل أن يعيد الأولى إلى ذمّته ويسكن معها، لأن زوجته الثانية كانت تعيش معظم الأحيان في بلدها الأمّ.
لم يكن الشيخ متعصباً أو متطرفاً، إذ أنه كان يتردّد مراراً على منزل جدّيه لوالدته وأخواله (من آل المقداد) في الضاحية الجنوبيّة. كما أنه لم يكن متزمتاً أو متشدداً، بالرغم من التزامه بالمنهج السلفي وهو الذي تخرّج من «أزهر لبنان». يحاول نصح أقربائه، النساء منهم خصوصاً، بالتقيّد بالتعاليم الدينيّة من خلال الحوار من دون عنف أو إلزامهم بذلك، على اعتبار أنهم «ليسوا تحت وصايته». أما زوجتاه فكانتا تضعان النقاب منذ تزوّج بكل منهما.
كان العشريني شديد الحرص على الروابط العائليّة، حنوناً ومتعلقاً بأهله وأخوته الذين كانوا يخافون عليه ويدللونه. لم ينم الرجل ليلة واحدة خارج منزله، بل كان يتعمّد الخروج عند صلاة الفجر والعودة قبل منتصف الليل. يسهر مع عائلته، ويخرج برفقة والدته وزوجته وإخوته كلّ يوم أحد.
ابن بيروت لم تكن لديه ميول سياسية. وأكثر من ذلك لم يكن متابعاً للأحداث السياسية، وهو أصلاً غير محب للتلفزيون. ولكن اندلاع الأحداث في سوريا، حرّك الشيخ المتحمّس الذي قام بتنظيم عدد من النشاطات في الطريق الجديدة لمساعدة النازحين السوريين.
الأحداث السوريّة غيّرت في الشاب الكثير، صار ينقل لمن هم على علاقة وطيدة معه أنه يتعرض لضغوط ومضايقات، ويصل إلى مسمعه أن الأجهزة الأمنيّة تسأل عنه في المناطق التي يتردّد إليها.
وفي العام 2011، طوّقت مخابرات الجيش منزله بأكثر من سيارة رباعيّة الدفع، ونقلته معصوب العينين إلى وزارة الدفاع. حينها سارعت عائلته إلى التوجّه نحو دار الفتوى. وبالفعل أوعز مفتي الجمهورية، الذي كان متواجداً في تركيا آنذاك، إلى مسؤول العلاقات العامة في «الدار» الشيخ شادي المصري بمتابعة الموضوع. سأل المصري عن قضية الشيخ المحتجز، وأعلموه أنهم لا يستطيعون إفادته إلا بعد انتهاء التحقيق مع الشاب.
وحوالي الساعة العاشرة مساء، تلقى المصري اتصالاً من أحد الضباط في وزارة الدفاع الذي أكّد له أن «التحقيقات لم تثبت تورّطه في أعمال إرهابيّة، وبالتالي تستطيعون نقله إلى منزله».
بعد حوالي الساعة، كان المصري في الوزارة حيث استلم الشيخ وأوصله إلى سيارة أهله التي كانت تنتظره تحت جسر الكولا. وفي الطريق، أكد الشاب أنه «بريء ولا ذنب له بما يتهمونه به، فأنا من المنزل إلى المسجد فالمحلّ، وليس لي أي علاقة بأمور شاذة».
ولكن بقي الرجل حانقاً على المضايقات التي يتعرّض لها، مشيراً إلى أنّ لـ«حزب الله» يداً فيها، وأن أحد الأشخاص يقدّم فيه تقارير دوريّة للأجهزة الأمنية. وبقيت كلمات النقيب (الذي حقّق معه) ترنّ في أذنيه: «لم يظهر أي إثبات أنك متورّط، إما لأنك ذكي أكثر من اللزوم أو لأنك فعلاً بريء، ولكن إذا ظهر أنك مذنب فلن نرحمك».
حينها عاد الشيخ غير ذلك الذي دخل إلى غرفة التحقيق، فكان طوال الوقت شارداً ومهموماً وحذراً في تنقلاته، من دون أن يفقده إيمانه و«قدريّته» أو يغيّر في برنامج حياته حتى ربيع العام 2012، حينما قرّر أن «يترك أهله وبلده مهاجرًا إلى اللهِ بدينِه..».
في ذلك اليوم، عادت زوجته إلى منزل أهله بعد أن وجدت سريره فارغاً. الرجل ترك رسائل لأفراد أسرته وتوارى عن الأنظار.
هذه هي حياة رجل دين عاديّة ويوميّات طبيعيّة، بحسب ما يرويها عارفوه. لا شيء استثنائيا فيها سوى نهايتها واسم صاحب هذه اليوميات. فهذا الرجل ليس إلا سراج الدين زريقات البالغ من العمر 24 عاماً. الخطيب المفوّه لم يعد يتردّد على مساجد بيروت، بل أصبح القيادي والناطق الإعلامي في «كتائب عبد الله عزّام».
بعد أشهر من الفرار، تحوّل زريقات إلى أوّل رجل دين لبناني ينتمي إلى «القاعدة» ويقف في واجهة المعركة. في 8 آب 2012، أطلّ على موقع «يوتيوب» في تسجيل صوتي يحمل عنوان «دفع المظالم» تعليقاً على سجن عدد من «مشايخ أهل السنّة». قال زريقات لـ«حزب الله»: «استعدّوا لأيّام مقبلات».. ثم اختفى عاماً ليظهر في تشرين الثاني من العام 2013 ويتبنّى انفجار السفارة الإيرانية.
الصدمة وقعت كالصاعقة على بعض أقربائه، لا سيّما والده الذي توجّه برفقه بعض أشقائه (بعض أعمامه ينتمون إلى «حزب الله») إلى دار الفتوى، حيث اعتذر لتوريط مسؤوليها بالإفراج عن ولده ومعلناً أنه «متبري منه ليوم الدين».
الشيخ الذي كان «مسالماً»، بحسب ما يصفه عارفوه، صار اليوم فاراً من وجه العدالة و«يكدّس» عدداً من مذكرات التوقيف الغيابيّة (بتهمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي، وتنفيذ أعمال إرهابية، وضلوعه في تأليف خلايا إرهابيّة)، وإرهابياً لبنانياً خطيراً ينتمي إلى «القاعدة» وأهميته في تجنيده عددا من الشبّان.
أين هو زريقات؟
منذ حوالي العام ونصف العام، اختفت زوجتا زريقات وابنه (البالغ من العمر خمس سنوات) وابنته (البالغة من العمر سنتين ونصف السنة). البعض يقول إنهم متواجدون معه أو «في مكان آمن» بحسب ما أبلغ عائلته. ومنذ عامٍ أيضاً، كان الشيخ المطلوب يتواصل مع عائلته عبر «سكايب»، يطمئن عنهم وعن أحوالهم إلى أن انقطعت أخباره. القوى الأمنيّة لا تعرف عن زريقات شيئاً، ولكنها تؤكّد وجوده خارج لبنان، ويتنقل بين العراق وسوريا حيث يقاتل هناك.
اليوم، صار الرجل المطلوب «كنزاً ثميناً» للأجهزة الأمنيّة، التي تعرف صعوبة إلقاء القبض عليه بعد تحوّله إلى قيادي في كتائب «عبد الله عزّام» وأوّل لبناني ينتمي علنا إلى «القاعدة» عالمياً.