سقوط الطائرة الماليزية وخسارة أرواح 298 راكباً بينهم 15 كانوا يشكلون طاقم الطائرة استتبع اتهامات سريعة للفريق المناصر لروسيا في شرق أوكرانيا والذي اتخذ خطوات استقلالية عن الحكومة المركزية في كييف.
والرئيس الاميركي أوباما سارع أيضاً إلى التأكيد ان الطائرة اسقطت بصاروخ من صنع روسي توافر لحركة الانفصاليين، وتالياً حمّل روسيا ورئيسها بوتين مسؤولية اسقاط الطائرة.
ولكن على العكس من الرئيس الاميركي، طالب بوتين ومعه المستشارة الالمانية أنغيلا ميركل بإجراء تحقيق دولي في سقوط الطائرة وخسارة الضحايا، في حين ان الانفصاليين الذين يتأثرون بالتأكيد بتوجهات القيادة الروسية سلموا الصندوقين الاسودين للطائرة الى السلطات الماليزية للمساعدة على اجراء التحقيق.
ويفرض المنطق انتظار جلاء أسباب تحطم الطائرة في ضوء تقرير الخبراء، وقد توافر عدد كبير منهم يزيد على المئة، بينهم خبراء من ماليزيا ومن الولايات المتحدة ومن شركة “بوينغ” ومن الاتحاد الاوروبي، بينما عرض الروس اشراك خبراء من جانبهم لكن هذا العرض واقتراح هدنة قتالية إلى حين انتهاء التحقيق لم يلقيا استجابة من الرئيس الاوكراني.
وثمة أسباب متعددة ساهمت في توجيه الاتهام الى الانفصاليين باستخدام صاروخ من صنع روسي لإسقاط الطائرة، ولعل مراجعة هذه الاسباب تظهر ان الاتهام ليس بالضرورة صحيحاً وان دوافع الاتهام متنوعة وغير بريئة.
* * *
من جهة أولى، تحطمت طائرة ماليزية من الطراز ذاته الذي تنتجه شركة “بوينغ” والذي يفترض انه يوفر فوائد كبيرة من حيث الامان والاقتصاد في الوقود. وتلك الطائرة تحطمت خلال رحلة لها من ماليزيا الى الصين قبل أربعة أشهر وقد بذلت جهود جبارة وبالغة الكلفة للعثور على حطامها وعلى جثث الركاب، وساهمت في أعمال البحث فرق من ماليزيا وأوستراليا، والولايات المتحدة، ولكن من دون جدوى.
وسقوط طائرة تابعة لشركة الطيران ذاتها ومن الطراز نفسه يطرح أسئلة عن اهلية الطائرة، وربما كفاية طواقم الشركة، وتجدر الاشارة الى ان سعر سهم شركة الخطوط الجوية الماليزية هبط بنسبة 20 في المئة بعد الحادث الاخير.
ومعلوم ان طائرة “بوينغ” من الطراز الجديد تتنافس، على مستوى السعة ومسافة الطيران واستهلاك الوقود وراحة المسافرين، مع طائرة “آيرباص” من طراز 330 الجديد. وفي معرض فارنبره الذي يعتبر من أكبر وأشهر معارض الطائرات، والذي فتح أبوابه قبل اسبوعين تقريباً لتجارب الطائرات على أنواعها، حققت شركة “آيرباص” الفرنسية – الالمانية مبيعات تجاوزت ضعفي ما حققته شركة “بوينغ”. فقد وقعت هذه عقوداً لبيع 201 طائرة من طراز الطائرتين المفقودتين، في حين وقعت الشركة الفرنسية – الالمانية عقوداً لبيع 420 طائرة من الطراز المنافس لديها، لذا تبحث شركة “بوينغ” كما السلطات الاميركية عن تفسيرات لسقوط الطائرة الاخيرة.
إن السخط الاميركي على المبادرات الروسية، ومطالبة الولايات المتحدة بعقوبات شديدة على روسيا قبل سقوط الطائرة، تعاظم لسببين قد لا يدركهما القارئ العادي، والمواطن العالمي.
فمن جهة، طلب ادوارد سنودون، الخبير لدى وكالة الأمن القومي الاميركية اللاجئ في روسيا، تمديد فترة لجوئه، وكان بعض المعلومات السرية التي كشفها في الصحافة البريطانية أصلاً قد أظهر ان هذه الوكالة تتنصت حتى على مخابرات رؤساء الدول بمن فيهم انغيلا ميركل، التي عبرت عن استيائها قبل ستة أشهر، وزاد حدة موقفها اكتشاف السلطات الالمانية حديثاً عمليات تجسس لديبلوماسيين اميركيين طالبتهما المانيا بمغادرة اراضيها.
وأنغيلا ميركل، نظراً الى العلاقات الروسية – الالمانية الاقتصادية والصناعية والاستثمارية والسياحية، وخصوصاً بالنسبة الى استيراد الغاز، تمنعت عن تبني قرارات من الاتحاد الاوروبي، تضر بروسيا اقتصادياً. ومعلوم ان أي عقوبات على دولة ما يجب ان تحظى بموافقة جميع اعضاء الاتحاد الاوروبي والمانيا هي الدولة الكبرى والاكثر تأثيراً في الاقتصاد الاوروبي، فان هي امتنعت عن تبني عقوبات مشددة على روسيا تسقط مشاريع هذه العقوبات.
والسبب الثالث والاهم في رأينا للحملة على روسيا يتمثل في الاتفاق الذي توصلت اليه دول مجموعة BRICS أي الصين والهند والبرازيل وروسيا وجنوب افريقيا، لإنشاء مصرف انمائي برأس مال يساوي 50 مليار دولار يدعمه صندوق لتغطية الحاجات الطارئة بموارد تساوي 100 مليار دولار.
هذه الخطوة التي توافق عليها زعماء الدول المعنية مع نهاية مونديال كرة القدم في البرازيل، أقرت لان السلطات الاميركية تصدر تشريعات تفرض التزامها على الدول التي تستعمل الدولار لتمويل وارداتها، وصادراتها ولتشكيل احتياطها. وهذه الدول تمثل بعدد سكانها 42 في المئة من مجموع السكان في العالم، كما انها تمثل 18 في المئة من مجمل الانتاج العالمي، ولديها احتياطات من العملات والذهب تساوي على الاقل 50 في المئة من الاحتياطات العالمية، كما ان جنوب افريقيا وروسيا تنتجان الجزء الاكبر من الذهب عالمياً.
والتقييدات الاميركية كانت ولا تزال كبيرة التأثير لان التعامل بالدولار يغطي 65 في المئة من مجمل حجم التجارة العالمية، وحديثاً تصدت مجلة “الايكونوميست” الصديقة للنظام الاميركي للسيطرة الاميركية، ووصفتها بأنها سيطرة انتقامية وخصوصاً بالنسبة الى العقوبات التي فرضت على أكبر مصرف فرنسي وبلغت 12,2 مليار دولار. وأشارت “الايكونوميست” الى ان السيطرة الاميركية تشرعت بموجب اتفاقات برايتون وودز التي انجزت عام 1944 وكان القصد منها تأمين انتظام نظام النقد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وقد اتفق في حينه على تأسيس صندوق النقد الدولي، واعطاء الولايات المتحدة وبريطانيا حق الفيتو على قراراته، وهذا الامر مستمر منذ 70 عاماً. وكانت الولايات المتحدة تحوز أكبر اقتصاد عالمي وأكبر قروض على الدول الاوروبية وروسيا.
واتفاق دول BRICS يهدف الى الحدّ من التأثير الاميركي، وحيث ان الصين وحدها تحمل 20 في المئة من سندات الدين الاميركية، وحيث أنها بدأت تصفي حساباتها التجارية بعملتها مع الدول القريبة منها، وقد باتت الدولة الكبرى على صعيد التجارة العالمية، تعاظم اهتمام الأميركيين بخطوة زعماء BRICS واعتبروا ان بوتين من اهم المبادرين الى تقليص دور الدولار والاستعاضة عنه تدريجاً ربما بالعملة الاوروبية اذا بدأت أوروبا تحقق نمواً ملحوظاً الامر المستبعد مدى سنتين. أضف زيادة دور الذهب في التعامل، والعملة الصينية، ويبدو ان العملة الصينية اعتمدت في انجاز أكبر اتفاق لتصدير الغاز من روسيا الى الصين بقيمة 400 مليار دولار مدى 10 سنين.