يغادر الرئيس ميشال سليمان القصر الجمهوري غداً عائداً الى منزله في عمشيت وهو مرفوع الرأس والجبين وضميره مرتاح لأنه يسلم لبنان لمن سيخلفه وهو أفضل مما تسلمه من سلفه، فلا أزمة تمديد ولا أزمة تجديد بل حكومة شبه جامعة تنتقل اليها وكالة صلاحيات الرئاسة الاولى وفقاً لما نصت عليه المادة 62 من الدستور. واذا كان ثمة ما ينغص فرحته بالعودة الى بلدته، فهو تعطيل جلسات انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً كي تتم عملية التسليم والتسلم بصورة طبيعية ويثبت لبنان أن تداول السلطة فيه يتم بسلاسة وفي اطار ديموقراطي، ويحمد الله على أن الشغور في سدة الرئاسة ليس هو المسؤول عنه إنما النواب الذين قاطعوا جلسات الانتخاب ولم يقوموا بواجبهم الوطني ولم يقترعوا للمرشح الذي يوحي به ضميرهم إنما اقترعوا للفراغ وان لبسوا العار.
يغادر الرئيس سليمان القصر الجمهوري الى منزله بعدما خدم لبنان رئيساً لست سنوات وقبلها قائداً للجيش لتسع سنوات. ففي موقع قيادة الجيش كان رمز الوفاء والتضحية، وفي موقع الرئاسة الاولى كان الحارس الامين والعين الساهرة واليقظة على حماية الدستور والحفاظ على الاستقرار العام لأنه أحسن إدارة التوازنات بحكمة وصبر من دون أن يفقد وزنه واتزانه ولانه يعلم ان أي خلل فيها يولد الازمات المفتوحة على كل الاحتمالات.
وإذا كان ثمة من يسأل ربما شامتاً، عن الانجازات التي تحققت في عهده، فالجواب واضح وصريح: لقد كان بودّه أن ينجز الكثير لكن الانقسام الحاد بين 8 و14 آذار لم يمكنه من ذلك، فأزمة تشكيل الحكومات أكلت نصف ولايته تقريباً للخروج منها، وبدعة تمثيل 8 آذار فيها بالثلث المعطل حالت دون اتخاذ القرارات المهمة ودون تحقيق الانجازات التي كان يصبو اليها، ولم تكن نتائج الانتخابات النيابية لتحسم بين 8 و14 آذار خلافاً لما كان يحصل في الماضي بحيث أن الاكثرية النيابية التي تفوز فيها هي التي تحكم وتكون لها رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس ورئاسة الحكومة تطبيقاً للنظام الديموقراطي العددي. لكن قوى 8 آذار ابتدعت بديلاً منه سمّته “الديموقراطية التوافقية” التي كان تطبيقها انتقائياً واستناسبياً وبحسب الظروف، لأنه لم توضع اسس لها تضبط تطبيقها، ما حال دون تحقيق الانجازات الاصلاحية، سياسية وادارية واقتصادية ومالية، فلا مشروع فصل النيابة عن الوزارة أقر لتسهيل تشكيل الحكومات من خارج المجلس بعدما تكرر تعذر تشكيلها من داخله بسبب استمرار الانقسام الحاد بين 8 و14 آذار وتبادل الشروط التعجيزية التي لا تحل الا بتدخل خارج مؤثر، ولم يتمكن من إقرار مشروع قانون الانتخاب في مجلس النواب لأن هذا الانقسام حال دون إقراره خصوصاً أن هذا القانون تدخل فيه مصالح سياسية وحزبية وانتخابية وصراع على السلطة يبدأ مع الانتخابات النيابية شرط أن يعترف الجميع بنتائجها لا أن يعتبر فريق ان الاكثرية التي فاز بها فريق آخر هي اكثرية نيابية وليست اكثرية شعبية ليفرض مشاركته في أي حكومة بدعوى أنه لا يحق للاكثرية الاستئثار في اتخاذ القرارات المهمة من دون مشاركة الاقلية التي لها تمثيلها الشعبي أيضاً… وهذا ما فرض خلال ولاية الرئيس سليمان تشكيل حكومات من أضداد قلما يتفقون على شيء حتى وان كان الوطن والمواطن في حاجة اليه.
ومع كل هذه العوائق والتجاذبات الداخلية وعصف رياح التغيير في اكثر من دولة عربية، فإن الرئيس سليمان استطاع أن يحقق أموراً مهمة سيذكرها له التاريخ وهي: مشروع اللامركزية الادارية ومشروع قانون الانتخاب على قاعدة النسبية و”اعلان بعبدا” بحيث يمكن اعتبار ذلك خريطة طريق لكل رئيس يأتي بعده. فالانتخاب على قاعدة النسبية هو السبيل لتحقيق التمثيل الصحيح لشتى فئات الشعب وأجياله. واللامركزية الادارية هي الحل لمشكلة الصراع على السلطة المركزية وتحقيق الانماء المتوازن، و”اعلان بعبدا”، وهو الاهم لأنه السبيل الوحيد لإخراج لبنان من صراعات المحاور الاقليمية والدولية، واذا كان “حزب الله” خالف هذا الاعلان بتدخله عسكرياً في سوريا، فسوف يعود إليه كما عاد سواه ورفع شعار “لبنان أولاً”، وسيعود أيضاً ويوافق على الاستراتيجية الدفاعية التي اقترحها سليمان للافادة من سلاح الحزب من دون الاضرار بسلطة الدولة.
والسؤال المطروح هو: هل يبدأ الرئيس الآتي قريباً ان شاء الله من حيث انتهى الرئيس سليمان أم من حيث بدأ؟
إن استمرار الانقسام بين 8 و14 آذار لن يمكن الرئيس العتيد من إنجاز ما لم يستطع سليمان انجازه، وهذا الانقسام قد لا يزول إلا إذا زال الانقسام العربي والدولي حول المنطقة وظل لبنان ساحة له…
إن التاريخ وحده هو الذي سيحكم على عهد الرئيس سليمان، ولن يحكم عليه سوى أنه الرجل العسكري الذي كان ديموقراطياً بامتياز والحامي العنيد للدستور وقوياً به وغير متهور، وقد حكم بحكمة واعتدال وبالقوة الهادئة، وهو لم يرد حتى على من تهجم عليه وهاجمه إنما ردَّ على كل من تهجّم على لبنان وهاجمه.