Site icon IMLebanon

سمير قصير.. تسع سنوات والربيع يُزهر تاريخاً

 

«انتفاضة الإستقلال» = سمير قصير. هذا ليس عنوان كتاب أو مقالة لشهيد الصحافة الأول في ثورة الأرز، بل مسيرة حياة طبعت خلاصة حياته كان أسماها «انتفاضة الإستقلال». تسع سنوات على غياب سمير قصير الصحافي الذي واجه على طريقته الفكرية المتحررة والمغمّسة بخبرة في معترك الكتابة والتأريخ والصحافة والسياسة. قاوم الوصاية السورية على لبنان وأيّد حرية الشعب السوري فأزهرت كلماته استقلالا للبنان وانتفاضة الشعب السوري على الديكتاتورية، فتفتّحت براعم الحرية على حساب حياته، من دون أن يكترث لتهديد أو ملاحقة.

9 أعوام مرّت على صباح ذاك الخميس الكئيب في الأشرفية. كل دقيقة كانت تمرّ كانت تؤشّر الى قربها من منزله. ما هي إلا دقائق حتى أُعلن: عبوة ناسفة استهدفت سيارة سمير قصير أمام منزله. في الليالي التي سبقت، كان سمير يناقش مع رفاقه موضوع المشاركة في الانتخابات النيابية، يرسم الأفكار حول الشعارات التي سترفع، وكانت السهرة الأخيرة التي جمعته مع رفاقه قبل يومين من الإغتيال في ساحة ساسين.

صحافياً، شكّلت مقالات سمير قصير وافتتاحياته في جريدة «النهار» في نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الثانية أبرز ما كُتب في مواجهة الهيمنة السورية على لبنان وحكم الرئيس السابق إميل لحود وأجهزته الأمنية. وقد دفع الأمر المدير العام للأمن العام حينها اللواء جميل السيد الى تهديده هاتفياً ثم إرسال سيارات تطارده وصولاً الى مصادرة جواز سفره في مطار بيروت الدولي في نيسان عام 2001 قبل إعادته إليه عقب حملة استنكارات سياسية وثقافية.

انتفاضة الاستقلال

في العام 2004 شارك سمير قصير في تأسيس حركة «اليسار الديمقراطي» وكان من أبرز وجوهها إلى جانب النائب السابق الياس عطاالله ونديم عبد الصمد. بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005، شارك سمير قصير بفاعلية في إطلاق الانتفاضة الشعبية في وجه الهيمنة المخابراتية السورية على لبنان، وكان له الفضل الأبرز في تسميتها بـ «انتفاضة الاستقلال» تأكيداً على طابعها الوطني الاستقلالي، وربطاً لها بالانتفاضة الفلسطينية في وجه الاحتلال الاسرائيلي عام 1987. وصارت مقالاته في «النهار» صوت الانتفاضة الأعلى والأنقى، وزاد عليها حضوره الدائم في ساحة الشهداء في بيروت يناقش مع السياسيين والإعلاميين والطلاب المتظاهرين أفكاراً ومقترحات لتطوير الأداء والانتصار في معركة استعادة السيادة والحرية.

ولعل سمير قصير كان أول من تنبّه الى أن بقاء الانتفاضة من دون برنامج سياسي لحقبة ما بعد الانسحاب السوري يصلح النظام اللبناني ويعدّل التوجّهات الاقتصادية ويطرح مسألة تخطّي الطائفية ويؤمّن المصالحة الوطنية الحقيقية، سيعرّضها سريعاً للانتكاس. كما أنه كان أوّل من دعا الى انتفاضة داخل تلك الانتفاضة تعيد الى الشارع وهجه والى السياسة معناها النبيل والى المواقف وضوحها واستقامتها.

الحلم .. ربيع

كثيرا ما كان يتحدّث سمير عن الساحة والشوارع، عن قصصها وتفاصيلها الخاصة. كان دوما منهمكا بالحديث عن تاريخ بيروت، عن التغيّرات العربية التي ستحصل بعد نجاح الانتفاضة اللبنانية وخصوصاً في إخراج الوصاية بعد ثلاثين عاماً من وجودها. كان يحلل في كلامه بداية جديدة في المشرق العربي مكلّلة بانتصار انتفاضة الاستقلال اللبناني. ماذا تغيّر اليوم؟ انتفاضات، انتصارات ونكسات وفراغ رئاسي، لم يكن هذا طبعا ما يتمنّاه سمير، بعض من أحلامه تحقق، فالمحكمة الخاصة بلبنان بدأت أعمالها بداية العام الحالي ولا شكّ بأن الأدلّة التي تستند اليها المحكمة ستكشف أسرار الإغتيالات، التي ليست بالنسبة للبنانيين ولا لسمير نفسه سرّا!

ومن أحلام سمير «ربيع العرب» كتب عنه في مقالاته وختم إحداها «ابشروا، فقد طابت الحياة يا عرب!» ولا شكّ بأن انتصاري تونس ومصر وليبيا واليمن جسّدت أحلامه. وقال أيضا «ان ربيع العرب، حينما يُزهر في بيروت، انما يعلن أوان الورد في دمشق».

ولكن بالنسبة إلى الشهيد سمير قصير لم يكن استقلال لبنان الناجز ممكناً وتاماً من دون وجود ديموقراطية في أقرب البلدان العربية إليه أي في سوريا، وقد قال في هذا الإطار «ديموقراطية سوريا شرط لاستقلال لبنان»، واليوم فيما اللبنانيون يتذكرون سمير، يشهد العالم على واحدة من أكثر الانتفاضات التي تجبه بدموية في العالم منذ أكثر من 4 سنوات طلباً للعدالة والحرية. في لحظات تأكّد أن أحلام سمير قصير هي استشراف وقراءة للواقع الذي يعيشه العالم العربي، فالحلم استحال كلّه ربيعا، تماما كما بنى سمير ربيع الوطن العربي على أحلام بأوطان تحكمها الحرية والديموقراطية، ويبقى حلمه بدولة فلسطينية تجمع كل الموجودين في شتات العالم.

بين الشعوب والأنظمة

أحلام سمير قصير تخطّت بيروت وقلبت الطاولة على الوصاية والأنظمة الأمنية والمخابرات. فهو الذي تصدى منذ زمن طويل للنظام الأمني اللبناني – السوري، وتعرض للملاحقة من قبل عملاء الوصاية منذ العام 2000، ما فتح عليه كل العدوانية التي أدت إلى اغتياله. صنع سمير انتفاضة الاستقلال، وكتب أهم شعاراتها، وجلس مع الناس في مخيم ساحة الحرية، وناقش مع جمهور الانتفاضة فكرة التمييز بين الشعب السوري والنظام الحاكم، وكتب في رسالته إلى صديقه السوري فاروق مردم بيك «شعبك عظيم يا أخي»، وصَدَق.

وفي كتابات سمير يظهر عناد محبب وخاص به يؤكد ثباته على مواقفه من أجل ديموقراطية وطنه ومحيطه، بشكل هادئ، مما يظهر وضوح الرؤيا لديه والإصرار على الخيارات الصحيحة من دون صراخ أو غوغائية.

في العام 2005 شدد سمير على رفض العنصرية، ودعا للتفريق بين الشعوب والأنظمة، كتب عن الحرية كثيراً، وتحدث في ساحة الشهداء عن الشعب السوري الذي يعاني الظلم، كان يقرأ الأحداث ويعرف بوضوح أن حركة التاريخ لا تتوقف. كان سمير جباراً متفانياً ويواجه بصلابة وثبات بشكل استدعى احترام الجميع، فهو ظل إلى اللحظة الأخيرة من حياته يطالب بالحرية ويتحدى الأخطار ويصمد ويحب الحياة، رؤيته واضحة ولم ينجرّ مرة إلى أماكن تبعده عن النضال من أجل وطنه وحريته واستقلاله.

من بيروت الى العالم

بيروت التي كتبها سمير قصير لا يمكنها أن تكون محايدة عما يحصل في العالم العربي، فربيع العرب شعار وضعه سمير قصير من تونس سميت ثورة الياسمين إلى ربيع القاهرة والورد الدمشقي، هذا الربيع الذي لا يمكن احتواؤه، صار أكبر من الدول والأنظمة، وتحول إلى نموذج يحتذي به الآخرون، نموذج جميل من أحلام سمير قصير. فقد كان يرى ان الحرية شرط للتغيير العربي كله، ولا مجال للتجديد والتطوير إلّا بزوال الطغيان، وأن يعود الناس لامتلاك مصيرهم بأيديهم. سار سمير قصير في قناعاته الى النهاية.

لم يكن الصحافي سمير قصير ليستكين أو يعرف الراحة منذ اغتيال رفيق الحريري وهو يكثر من نشاطه السياسي ولقاءاته، يحاجج، يتحدث بصوت عالٍ، يبشّر بالتغيير في كتاباته وفي نقاشاته. حكاية قصير مع النظام الأمني طويلة، وليست مصادفة انه كان أول من استشهد بعد الرئيس الحريري، إذ اغتيل في الثاني من حزيران 2005، في رسالة واضحة الى قوى الاستقلال والحرية للقول إن خروج الجيش السوري في 27 نيسان من لبنان لم يغيّر شيئاً وأن قواه في الداخل مستعدة للدفاع عنه وزرع الموت في شوارع العاصمة حتى لا تزهر أحلام «الانتفاضة».

عيون سمير قصير

لم يغبْ سمير فعيناه مازالتا تراقبان الصحافة والإنتفاضة والسياسة، من خلال مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية «سكايز» SKeyes عيون سمير قصير في بيروت، الذي تأسس في تشرين الثاني 2007، بمبادرة من مؤسسة سمير قصير بعد اغتياله. اختير اسم «سكايز» انطلاقاً من رمزية سمير قصير ككاتب وصحافي عُرف بجرأته ومناداته بالحريات الإعلامية والثقافية. يرصد المركز الانتهاكات التي تتعرض لها الحريات الإعلامية والثقافية في البلدان الأربعة التي يغطيها نشاطه اليوم، لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، ويدافع عن حق الصحافيين والمثقفين في التعبير، بهدف الإسهام في بلْوَرة رأي عام عربي يتبنّى قضية الدفاع عن حرية الإعلام والثقافة.

وتُمنح جائزة سمير قصير سنوياً في الثاني من حزيران، اليوم الذي اغتيل فيه سمير. وأنشأ الاتحاد الأوروبي الجائزة في العام لإعادة التأكيد على تخليد ذكرى سمير قصير ومعركته من أجل حرية التعبير، خصوصا مع استمرار الإنتفاضات في العالم العربي حيث يدفع العاملون في مجال الإعلام ثمنا باهظا نتيجة تغطيتهم للأحداث.

كتاباته وكتبه

في العام 2003، نشر سمير قصير كتابه الثالث بالفرنسية «تاريخ بيروت» وصدرت ترجمته العربية عام 2007، وفيه يروي تاريخ المدينة وعائلاتها وثقافتها واقتصادها وتطوّرها العمراني والمديني والاجتماعي ويوثّق لعلاقتها بسائر المناطق اللبنانية وبالحواضر العربية والمتوسّطية. وأتبعه بكتابين بالعربية صدرا العام 2004: «ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان» و«عسكر على مين»، وقد ارتبط اسم سمير قصير بعنوان الكتاب الأخير وهو عبارة عن مجموعة مقالات تتبع تسلسلها الزمني ضمن كتاب «عسكر على مين؟»، وتأتي الإجابة في العنوان الثانوي «لبنان الجمهورية المفقودة». ومن المقالات المنشورة في الكتاب: «الجمهورية الموقوفة» و«سلطات ضد الدولة» و«حرب عصابات» و«التمديد والتجديد والتجميد» و«سحر التحرير» و«المرئي والمسموح».. يفكك سمير قصير آلية القمع والتسطيح حتى أدنى دقائقها في دهاليز وزواريب وزوايا العسكريتاريا التي استعاضت عن الحرب ضد العدو بالحروب الصغيرة، الحروب «المخابراتية» والتي ذاق بعض مرّها. يقول سمير قصير في مقدمة كتابه: «ليست الشكوى من العسكرة ومن تسلط المخابرات شكوى مبدئية. فمفاعيل هذا التسلط ماثلة في المجتمع اللبناني أمام الجميع، وأولها غياب الشفافية وتغييب المسؤولية وتالياً منع المحاسبة. وثانيها التحايل الدائم على القانون، بل إفساد روح القانون نفسه وإلغاء احتمالات الإصلاح».

ثم نشر قصير كتاباً جديداً بالفرنسية عنوانه «تأملات في شقاء العرب» وقد ترجم الى العربية والانكليزية، وفيه تحليل مكثّف لأسباب إجهاض النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر، ورفض لمنطق التأريخ التبسيطي الحاكم على العرب بالانحطاط، واعتبار أن شقاءهم الحالي هو نتاج جغرافيتهم أكثر منه نتاج تاريخهم.. بالإضافة الى كتاب «حرب لبنان: من الشقاق الوطني إلى النزاع الإقليمي 1975-1982»، «لبنان: ربيع لم يكتمل»، وغيرهما الكثير من الكتب.

الأستاذ والكاتب

ولد سمير قصير في 4 أيار عام 1960 من أب لبناني فلسطيني وأم لبنانية سورية. نشأ في الأشرفية في بيروت ودرس في مدرسة «الليسيه الفرنسي»، قبل أن ينتقل الى باريس العام 1981، بعد ست سنوات من اندلاع الحرب اللبنانية، ليتابع دراسته الجامعية. حصل في العام 1984 على دبلوم دراسات معمّقة في الفلسفة والفلسفة السياسية من «جامعة السوربون» (باريس الأولى) ثم في العام 1990 على شهادة دكتوراه في التاريخ المعاصر من جامعة «باريس الرابعة». كتب سمير قصير خلال إقامته الباريسية مجموعة من المقالات، وفي العام 1992، تشارك مع صديقه المؤرّخ والناشر السوري فاروق مردم بك في كتابة «مسارات من باريس الى القدس: فرنسا والصراع العربي الاسرائيلي» الذي يرصد في جزءين (بالفرنسية) تاريخ السياسات الفرنسية في المشرق العربي، المتعلقة بالنكبة الفلسطينية وبالصراع العربي – الاسرائيلي. وبعد صدور الكتاب بسنة واحدة، عاد سمير الى بيروت ليدرّس في كلية العلوم السياسية في جامعة «القديس يوسف»، ولينضم الى مؤسسة «النهار»، مديراً لدار نشرها، وكاتباً في يوميتها.