في الذكرى التاسعة لاغتيال سمير قصير، يتّسع فاصل الزمن، ويبقى السرد على وعد انكشاف حقيقة جرائم الاغتيال، ومحتاجاً الى ادخال أفكار جديدة لمراجعة الواقع اللبناني وتناقضاته وتحولاته في السنوات الماضية.
تسع سنوات ليست قليلة. بالذات التسع سنوات التي مرّت بنا من لحظة الاستقلال الثاني وتوالي عمليات الاغتيال، فهي تساوي عمراً كاملاً، وتدبغ كل من عاصرها وخاض فيها بعلامة الناجين.
فهي سنوات النوبات المتواصلة، ما بين لحظات تفاؤلية عارمة وكبوات تشاؤمية مريرة، فالحماسة الاستقلالية أتبعت بمحنة الدعوات الاستنهاضية غير الموفقة، والانقسام على خلفية حرب تموز تحول الى انشطار أهلي، أتبع بانطلاقة مشروع الغلبة الفئوية بعده، وغزوة السابع من أيار قابلها الانتصار الآذاري في انتخابات ألفين وتسعة، وهذا الانتصار سرعان ما تحلّلت عناصره مع أزمة الحركة الاستقلالية، وصولاً الى حكومة القمصان السود، وبالتزامن مع تطورات انتفاضية في الاقليم، أعطت مولداً آخر للحماسة، هو الحماسة للثورة السورية، وضد تدخل «حزب الله» الى جانب النظام لقمعها، لكن مرارة الصراع الدائر على الأرض السورية، والمسألة الديموغرافية التي يطرحها النزوح السوري على لبنان، والانقسامات داخل الحركة الاستقلالية على خلفية قانون الانتخاب والمشاركة في الحكومة، كل هذا حكم باستمرار دينامية النوبات: يوم يوحي بتشاؤم فظيع، ويوم يدفعك الى التفاؤل.
في الذكرى التاسعة لاغتيال سمير قصير يختلط الحابل بالنابل ما بين «الشقاء العربي» و«الربيع العربي». يأخذ هذا الخلط شكلاً مختلفاً في كل بلد.
بصورة سريعة وشاملة بالمستطاع القول إننا أمام أنظمة مومياقراطية نصف منهارة ونصف مستمرّة، وأمام مجتمعات هي أيضاً بدورها، نصف منهارة ونصف مستمرّة.
وهذا يسمح للكثيرين بأن يروا من الكأس النصف الذي يروق لهم. فمن أراد التفاؤل انتقى من الوضع السوري أو المصري ما أراد، ومن أراد التشاؤم وجد ضالته ويزيد. العتب على النظرة الشاملة، وهذه لا يؤمنها «اللافكر» التبريري. فلا مناص من الاقرار، خصوصاً في مناسبة كهذه، ان مساحة اللافكر التبريري تعاظمت في السنوات الأخيرة، وان هامش الفكر النقدي الحي انحسر.
وبدلاً من انصراف التفكير الى العناية بالبنى الاجتماعية، والتعدديات المتنوعة الأشكال على امتداد الجغرافيا، وكيفية إقرار الواقع على ما هو عليه للخروج بعقود اجتماعية تأسيسية للكيانات الوطنية في المنطقة من جديد، كان التسابق بين معظم التيارات الايديولوجية على انكار الواقع، وتسطيح البنى الاجتماعية.
واذا كانت كتابات سمير قصير تميّزت بمحورية اقامة العلاقة بين استقلال لبنان وبين ديموقراطية سوريا، فإن تطورات الواقع تنحو بالأحرى الى اهمية التفكير في العلاقة بين استقلال لبنان وبين استقلال سوريا أيضاً، حيث ان سوريا في عالم اليوم هي النموذج الأمضى لمستعمرة فرنسية سابقة ترث فيها فئة بعينها الادارة الكولونيالية وتستخدمها لفرز وقمع الأنسجة الأخرى من المجتمع نفسه. لكن التمكن من بلورة وعي سياسي مناسب لهذا التوصيف رهن أيضاً بفهم الأبعاد الخطرة التي يتخذها تحلل المجتمع السوري، وضرورة أن يستنفر المنتفضون على النظام جهودهم لوقف عملية تحلل المجتمع السوري. من هنا فمعادلة أدونيس الذي يرى انه كان ينبغي تغيير المجتمع قبل تغيير النظام يجب ان ترتد على أعقابها. فما يفعله النظام، كوريث للادارة الكولونيالية، هو «تغيير المجتمع»، بضرب حيويته في زمن السلم، وافلات هذه الحيوية من عقالها كلياً في زمن الحرب، بحيث لا تعود لبنة في هذا المجتمع يمكنها ان تلحم على لبنة. «الدفاع عن المجتمع» لاستعادة عنوان ذلك الكتاب المثير لميشال فوكو هي اليوم مهمة أساسية لاستعادة الثورة السورية الى حيث المسألة الوطنية: استقلال سوريا.
في سوريا، عنوان للتشاؤم أساسي: الدمار البنيوي الذي لحق بالمجتمع السوري. يتفرّع عنه عنوانان: الكارثة الديموغرافية التي هجّرت ملايين السوريين داخل وخارج وطنهم، وتمكن نظام البعث الفئوي الدموي من الاستمرار. وما بين التشاؤم الذي يجسّده النظام وما بين التشاؤم الذي يلازم حكماً أي نظرة للنظام الى الواقع الحالي لانقسام البلاد او الى المقبل من أيام، يتجلّى نوع من «التوازن الكارثي»، بلغة انطونيو غرامشي، حيث تعجز الثورة عن الاطاحة بالنظام ويعجز النظام عن قمع الثورة، فتكون نتيجة اجتماع الأمرين على حساب المجتمع.
ولبنانياً، فان الخطر اليوم هو على «ديموقراطية لبنان» اكثر مما هي على استقلاله. فعمليات القضم لمؤسسات الدولة، وعمليات تفريغها، ليس هناك ما يوقفها، في غياب الديناميات الشعبية المضادة، وهذه لا تستعاد بالدعوات «الاستنهاضية»، ولا بنوستالجيا الشهادة، لكن أيضاً، بالجرأة على اقرار واقع التعددية اللبنانية على ما هو عليه، والمدخل الى ذلك انه ليس بمستطاع اي فئة ان تدعي بأنها ضنينة على مصالح الأخرى اكثر منها، لا على المستوى الاسلامي – المسيحي، ولا على المستوى السني – الشيعي.
تسع سنوات من تعاقب حسابات وانتظارات التشاؤم والتفاؤل، ويبقى وجه سمير قصير التفاؤلي بقوة حاضراً، بالحوار مع الاشكالات التي طرحها، والانتظارات التي تتطلع اليها.