Site icon IMLebanon

شبه حدود لـ«شبه دولة»: العصبيّات فوق كل اعتبار

تشكل الحدود اللبنانية السورية وحمايتها محور مطالبات بحمايتها في ظل الحرب السورية. لكن مشكلة الحدود لم تكن في لبنان يوماً عسكرية ولا أمنية ولا حتى جغرافية

ورد في وثيقة للخارجية الفرنسية في 27 أيار عام 1938 الآتي: «وقع خلاف بين الدروز المقيمين في مجدل شمس والسنّة المقيمين في جباتا الخشب، وكلتا البلدتين السوريتين تقعان في جبل حرمون. وقد استدعت المجموعتان الطائفيتان مواطنيهما من لبنان وفلسطين لنجدتهما. وكانت الحصيلة اشتباكات بين الطائفتين اللتين تجاهلتا الحدود الموضوعة بين الدول الثلاث».

لا يمكن إعطاء مثل أكثر دلالة من هذه الوثيقة الفرنسية، عن واقع الحدود التي عاشتها الدول الثلاث، فانهارت تحت وطأة الطائفية التي شدت الدروز والسنة في لبنان وفلسطين لنجدة إخوتهم في سوريا. ولا تمثل واقعة عام 1938 اختلافاً كبيراً عن الحاضر الذي نعيشه، تحت وطأة التدخلات والعبور المتنامي والسهل، عبر الحدود وكأنها غير موجودة على الإطلاق.

لطالما شكلت الحدود الإطار السياسي والسيادي الذي تحكمّ بمصير دول عاشت حروباً طويلة للحفاظ على أرضها. واليوم تمثل هذه الحدود، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، همّاً للباحثين الذين يدرسون انعكاس هذا التفلت من الحدود التي أرساها اتفاق سايكس بيكو، وأوضاع دول المنطقة التي لا تزال تحفظ في الحد الأدنى كيانها الجغرافي كلبنان وسوريا والعراق والأردن. لكن مع إضافة مشهد جديد يتمثل بالحدود التي كسرتها «الدولة الإسلامية» بمشهد استعراضي عنفي كبير، وليس أكيداً أنها الوحيدة التي ستنكسر.

ثمة خلاصة ينتهي إليها أحد الباحثين اللبنانيين في ورقة قدمها في مؤتمر أميركي عن الشرق الأوسط تتحدث عن «العصبية» بكل أنواعها التي تطيح الحدود، وتعلو على كل ترسيم جغرافي. يمكن من خلالها رصد هذا التفلت من أي إطار قانوني أو جغرافي كي تساند كل طائفة أو قبيلة أو عشيرة أبناء جلدتها. ولعل ما يحصل في لبنان وسوريا والعراق يشير بوضوح الى دور هذه العصبية.

لم تكن الحدود

التي نص عليها الدستور هي التي أعطت لبنان حمايته الجغرافية

يمثل لبنان واحدة من الدول التي يصفها العلم السياسي بـ«شبه الدول»

لا تمثل حالة الحدود الشمالية والبقاعية حالة غريبة عن التاريخ اللبناني القديم والحديث، الذي نعيشه بين مد وجزر بين مسلحين آتين من سوريا لنجدة إخوتهم السنّة في عرسال أو غيرها، وبين مقاتلين لحزب الله يذهبون الى سوريا لنجدة حلفائهم أو للدفاع عن المناطق الشيعية في سوريا، أو بين علويين أتوا من سوريا الى جبل محسن، أو سنّة يذهبون من الشمال الى سوريا. يذهب السنّة والشيعة من لبنان الى سوريا ويعودون إليه، وكأن ثمة ساحة مفتوحة واحدة، سبق أن تحدث عنها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في خطابه الشهير عام 1976. وليس ببعيد من الآن، قطع المسيحيون الحدود الجنوبية وذهبوا في اتجاه إسرائيل، وكذلك فعل الدروز الذين تواصلوا مع دروز فلسطين. وإن لم تكن العصبية التي تتغلب على الحدود الجغرافية، كيف يمكن أن يتضامن المسيحيون في لبنان مع مسيحيي الموصل ومعلولا ووادي النصارى؟ وكيف يمكن لشيعة لبنان أن ينصروا المدافعين عن مقام السيدة زينب في دمشق؟

لم تكن الحدود التي نص عليها الدستور اللبناني هي التي أعطت لبنان حمايته الجغرافية أو السياسية. ولم تكن يوماً كذلك، ولا سيما حين أعلنت دولة لبنان الكبير، وظل الالتباس قائماً حول الخريطة التي أرفقت بهذا الإعلان بعدما تبين أنها استندت الى خريطة الحملة الفرنسية عام 1862 و«هذه الأخيرة لم ترتكز على معطيات طوبوغرافية دقيقة، ولكن على خطوط عامة استكشافية فيها الكثير من الأخطاء» (عصام خليفة _ الحدود اللبنانية السورية).

يمثل لبنان واحدة من الدول التي يصفها العلم السياسي بـ«شبه الدول» التي يحتاج وجودها الى رعاية دولية وإقليمية وإحاطة دائمة كي تستمر على قيد الحياة، وخصوصاً أن شعوب هذه الدول لم تسأل عن رأيها حين أنشئت دولها ورسمت حدودها. من هذا المنطلق، لم تكن يوماً حدود لبنان حدوداً قائمة بذاتها وتشكل حماية متكاملة، بحسب ما تقول المادة أ من مقدمة الدستور «لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دولياً».

فعن أي حدود يتحدث الدستور، ومن الذي يعترف بها طالما أن اللبنانيين هم الذين خرقوا هذه الحدود؟ فهل هي الحدود المنصوص عنها دستورياً بحسب المادة الأولى؟

شمالاً: من مصب النهر الكبير (…) شرقاً: خط القمة الفاصل بين وادي خالد ووادي نهر العاصي (…).

جنوباً: حدود قضاءي صور ومرجعيون الجنوبية الحالية.

غرباً: البحر المتوسط.

أم أن هناك حدوداً أخرى سمح اللبنانيون أن يضعوها لأنفسهم، حين طغت السياسة وتفوقت العصبية والطائفية، كما حصل في كل المحطات التاريخية منذ أن اندلعت حوادث 1958، مروراً بمحطات 1967 و1969 و1973 و1975 والدخول السوري عام 1976 والاجتياح الإسرائيلي المتكرر عبر الحدود الجنوبية.

اتفاق القاهرة

شكل اتفاق القاهرة 1969 أول وثيقة رسمية تشرّع الحدود اللبنانية أمام العمل الفدائي انطلاقاً من لبنان، علماً بأنه إثر إنشاء منظمة التحرير جرى الاتفاق بين الأنظمة العربية على ألا تقام قواعد عسكرية في لبنان، ومن يلتحق بجيش التحرير لا يسمح له بالعودة الى لبنان. (فريد الخازن ـــ تفكك أوصال الدولة في لبنان).

جاء الاتفاق انعكاساً لتطورات ميدانية بدأت منذ صيف عام 1968 مع تزايد أعداد الفدائيين المتسللين عبر الحدود من الأراضي السورية الى منطقة العرقوب. في 14 حزيران 1968، كسرت العمليات الفدائية الحدود الجنوبية المحمية مبدئياً باتفاق الهدنة الذي ينص على أنه «لا يجوز لأي فئة من القوات البرية أو البحرية أو الجوية، العسكرية أو شبه العسكرية، التابعة لأي من الفريقين، بما في ذلك القوات غير النظامية، أن ترتكب أي عمل حربي أو عدائي ضد قوات الفريق الآخر العسكرية أو شبه العسكرية، أو ضد المدنيين في الأراضي التي يسيطر عليها الفريق الآخر».

في 30 تشرين الأول، شنت إسرائيل عمليتها الأولى داخل الأراضي اللبنانية مستهدفة معسكراً لفتح. وفي كانون الأول، نفذت عمليتها ضد مطار بيروت. منذ عام 1968، أخذ تسلل الفدائيين من سوريا الى العرقوب يتزايد، وتتزايد معه المواجهات بين المتسللين والجيش، وحصلت إحدى أولى المواجهات في 29 تشرين الأول 1968 في العرقوب. وفي عام 1969، وقعت سلسلة مواجهات في مجدل سلم وفي دير ميماس، ثم العديسة والخيام. ومع ارتفاع الوتيرة وتعمق الخلاف السني ـــ المسيحي حول طريقة مقاربة العمل الفدائي، جاء توقيع اتفاق القاهرة السري، الذي عارضه العميد ريمون إده واعتبره مخالفاً لاتفاق الهدنة، لينعكس تسهيلاً لحركة الفدائيين عبر الحدود من الجنوب والبقاع، وفتح الباب أمام تدفق المقاتلين الفلسطينيين من لبنان وإليه، وسط تأييد وتغطية سنية واسعة. يقول الخازن: «القيادة السنية التي كان يمثلها رشيد كرامي أفضل تمثيل دعت الى سياسة التنسيق مع الفدائيين (…) وحين تفاقم الوضع مع الفدائيين، لم يكن ممكناً شن عمل عسكري ضد الفدائيين الفلسطنيين من دون دعم سياسي لا لبس فيه من الأقطاب السنّة، وخصوصاً رئيس الحكومة».

سوريا والحدود المصطنعة

لم تكن مشكلة الحدود لبنانية إسرائيلية فحسب، ففي عام 1969 وبعد المواجهات التي حصلت بين الجيش اللبناني والفلسطينيين، أقفلت سوريا حدودها مع لبنان في 22 تشرين الأول. وظلت سوريا تتعامل منذ ذلك الوقت مع الحدود على أساس أنها حدود مصطنعة، ولم توفر فرصة منذ أن دخلت لبنان رسمياً وحتى خروجها منه رسمياً، إلا عبرت فيها عن نظرتها للحدود المشتركة، وهو ما ظهر في نصوص معاهدة الأخوّة والتنسيق بين البلدين عام 1989.

كذلك لم تكن مشكلة مزارع شبعا التي وضعت يدها سوريا عليها، بدءاً من عام 1956، المشكلة الجغرافية الوحيدة بين البلدين، لكنها أخذت أهميتها السياسية والعسكرية في الأعوام الأخيرة، في ضوء النزاع العسكري بين إسرائيل ولبنان، وتحديداً مع حزب الله الذي لا يزال يطالب بتحرير مزارع شبعا التي احتلتها إسرائيل عام 1967، علماً بأن طاولة الحوار حين ناقشت مزارع شبعا فتحت ملف ترسيم الحدود، لكنها غرقت في معركة لغوية بين «ترسيم وتحديد».

ولا نغفل عدد الحوادث اللبنانية السورية على الحدود المشتركة، التي زادت حدة بعد الحرب السورية وكذلك النقاط التي تحتاج الى ترسيم واضح حتى بحرياً، وقد تتفاعل حين يصبح الملف النفطي اللبناني على الطاولة الإقليمية والدولية.

إسرائيل والخط الأزرق

يفتقر لبنان الى خرائط حديثة وواضحة، وإسرائيل تتعامل مع الوضع على الحدود الجنوبية وكأنها غير موجودة. لكن مشكلة لبنان أنه يتجاهل منذ إنشاء كيانه الحديث ترسيم الحدود في جميع الاتجاهات، وهو اضطر مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان الى اعتماد الخط الأزرق الذي استمر العمل على ترسيمه وتحديد نقاطه سنوات بالتعاون مع القوات الدولية.

تتحكم بالحدود الجنوبية اليوم آليتا عمل اتفاق الهدنة والقرار 1701 الذي جاء نتيجة حرب تموز عام 2006. لا ينص الأول على توصيف كامل للحدود، وإنما يختصرها بأن اتفاق الهدنة «يتبع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين»، في حين أن القرار 1701 أكد احترام المجتمع الدولي «لاستقلال لبنان السياسي في نطاق حدوده المعترف بها دولياً»، إلا أنه أيضاً أكد تأييده الشديد لاحترام الخط الأزرق.

تحاول قوى 14 آذار الإفادة من مضمون هذا القرار للدعوة الى تطبيق آليته على كل الحدود، اعتراضاً على فتح حزب الله الحدود وذهابه للقتال في سوريا. لكن المشكلة الأساسية أن القرار الدولي صدر بإجماع مجلس الأمن وبموافقة الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية، وهما أمران غير متوافرين راهناً. فلا المجتمع الدولي في وارد الموافقة على توسيع إطار القوة الدولية، ولا الدول المشاركة مستعدة لتحويل جنودها إلى رهائن في منطقة تشهد أعمال ذبح وقطع رؤوس. ولا الحكومة مجتمعة ستقبل بتحويل الحدود إلى منطقة دولية في ظل الصراع بين النظام السوري ومعارضيه، وخصوصاً في ظل الخطر الكامن باحتمال وصول «الدولة الإسلامية» الى الحدود اللبنانية. وهذه المطالبة تعيدنا الى النقطة الأولى و«شبه الدولة» التي تحتاج ربما الى أكثر من حماية المجتمع الدولي لها.