إذا كان «حزب الله» لن يضحّي في علاقته مع عون مقابل تسوية رئاسية، فإنّ «المستقبل» لن يضحّي أيضاً في علاقته مع جعجع مقابل تسوية رئاسية، وكيف بالحريّ في حال كانت مع عون نفسه الذي يؤدّي وصوله إلى رئاسة الجمهورية إلى خلخلة ميزان القوى داخل البيئة المسيحية الذي وضعت فيه «القوات» ومعها مسيحيّو 14 آذار جهوداً استثنائية لإعادته إلى طبيعته بعد اختلاله على أثر التحالف الرباعي الذي وظّفه عون لمصلحته.
وفي الانتخابات الرئاسية حسابات مسيحيّة ببُعدٍ وطني لا يمكن تجاهلها، ووصول عون عن طريق «المستقبل» على سبيل المثال يؤدّي إلى إضعاف «القوات» ومسيحيّي 14 آذار الذي يؤدّي بدوره إلى إضعاف الخط السيادي، خصوصاً أنّ عون سيكون في أفضل الأحوال وسطيّاً إذا لم ينقلب على التعهّدات الضمنية التي أوصلته ويستعيد نهجه التحالفي مع «حزب الله».
وأيّ تحالف خماسي رئاسيّ يضمّ «حزب الله» وحركة «أمل» و»الاشتراكي» و»المستقبل» و»التيار الوطني الحر» يعني دخول لبنان رسمياً في زمن الوصاية الإيرانية، ولن يطول الزمن قبل إخراج «المستقبل» من هذا التحالف عندما يتأكّد الحزب أنّ وظيفة هذا التيّار استنفدت صلاحيتها، فضلاً عن أنّ عون يكون قد حقّق بالتوافق المزعوم في العام 2014 ما عجز عن تحقيقه بالمواجهة في عامي 2007-2008، ومع ما يعني ذلك من خطورة إرساء تحالف ثلاثي مسيحي-شيعي-علوي يؤدّي إلى تطويق الحركة السيادية بترجيح كفّة محور الممانعة.
والتطويق الذي يقوم به «حزب الله» يتمّ عبر إغراء بعض الأطراف بمكاسب فئوية تدفعها إلى تبريد المواجهة معه على المستوى الوطني، وذلك من خلال التعهّد لـ»الاشتراكي» بإعادة العمل بقانون الستّين نيابياً، الأمر الذي يضمن نفوذه ودوره وغضّ نظره على الأمور السيادية، ومنح « المستقبل» حقّ المبادرة بشكل مطلق على الساحة السنّية، الأمر الذي تُرجم من جهة بإلغاء الحالتين العلوية والمتطرّفة في طرابلس وتهميش سنّة سوريا وإعادة الاستقرار إلى المدن السنّية، ومن جهة ثانية بتراجع حدّة الخطاب الوطني.
وفي هذا السياق بالذات تأتي الانتخابات الرئاسية، حيث إنّ وصول مرشّح سياديّ من وزن جعجع أو غيره يؤدّي إلى خربطة الحسابات الفئوية، ما يجعل من مصلحة معظم الأطراف في الداخل والخارج وصول شخصية تستكمل المناخات التي أرختها التسوية الحكومية. وفي هذا الإطار يدخل تحرّك عون الذي يعمل على خطّين: خطّ تعطيل النصاب، قطعاً للطريق أمام أيّ رئيس عتيد، والخطّ السعودي-المستقبلي لتعبيد طريق بعبدا، واضعاً اللبنانيين أمام خيارين: أنا أو الفراغ، ومُتّكئاً على رفض «المستقبل» للفراغ انسجاماً مع الوعود التي قطعها لبكركي.
ولكن من الخطورة بمكان أن تبصر النور هذه المحاولة التي تضجّ بها الصحافة والصالونات السياسية، وذلك لسببين: السبب الأوّل وطنيّ ويؤدّي إلى تغليب البعد التطبيعي مع «حزب الله» ومحاصرة كلّ القوى الرافضة التسليم بالأمر الواقع الجديد والتعامل مع الحزب من منطلق الواقعية السياسية التي تفرض تأجيل البحث وحتى إثارة الملفّات الخلافية معه بانتظار التسوية السعودية-الإيرانية المرتبطة بالتفاهم الغربي مع طهران، فضلاً عن معرفة مآل الأزمة السورية.
والسبب الثاني مسيحيّ ويؤدّي إلى تغليب المنطق التسووي لدى المسيحيّين على المنطق السيادي، وخطورته هذه المرة أنّه يأتي في مرحلة انقسام مسيحيّ حول العنوان الوطني، خلافاً لحقبة الوصاية السورية على لبنان التي كان فيها المسيحيّون موحّدين حول هذا العنوان، وخاضوا تحت غطاء بكركي عبر لقاء «قرنة شهوان» مواجهة شرسة مع النظام السوري مهّدت، نتيجة تقاطعات وظروف داخلية وخارجية، لخروج الجيش السوري من لبنان.
وخطورة المنطق التسووي مسيحيّاً أنّه يأتي في اللحظة التي دخلت فيها القوى السيادية الوطنية في مرحلة «استراحة المحارب» التي بدأها «الاشتراكي» واستكملها أخيراً «المستقبل»، ما يعني أنّ المعركة السيادية التي اتّخذت عنواناً مسيحياً قبل العام 2005، ومن ثمّ عنوانا وطنياً بعد هذا التاريخ، لم تعُد كذلك مع التسوية الحكومية، الأمر الذي يجعل التيار السيادي في أسوأ مرحلة تاريخية: غياب وحدة الصف المسيحي، وغياب 14 آذار.
وتأسيساً على ما تقدّم، يسعى «حزب الله» إلى تكرار تجربة الوصاية السورية، مع فارق الإدخال المسيحي التمثيلي هذه المرّة في التسوية الجديدة، على قاعدة تحالف خماسي. وفي ظلّ المعطيات المشار إليها خارجياً (تبدية الاستقرار على السيادة في لبنان) وداخلياً (تسويات فئوية)، قد يصعب مواجهة هذا الواقع الذي سيستجدّ، خصوصاً في حال آلت الرئاسة الأولى إلى رئيس تكتّل «الإصلاح والتغيير»، ما يعني دخول لبنان حتى إشعار آخر في الفلك الإيراني.
والطريق الوحيدة لإجهاض هذا المخطّط هي معراب، حيث على «المستقبل» أن يكون واضحاً وصريحاً مع عون لجهة أنّ توفيره النصاب لانتخابه رئيساً يتطلب الاتّفاق مع جعجع أوّلاً، لأنّه غير مستعدّ للتضحية بعلاقته مع «القوات»، وأيّ خطوة من هذا النوع هي بديهية على غرار رفض «حزب الله» التضحية بعلاقته مع «التيار الوطني الحر»، وبالتالي ما على عون إلّا أن يزور جعجع للاتّفاق معه وطنياً ومسيحياً على وصوله رئيساً، وبناءً على هذا اللقاء يَبني رئيس «القوات» على الشيء مقتضاه، وما سوى ذلك فطريق بعبدا يُفترض أن تكون مقطوعة أمام عون، لأنّ اللعب بالتوازنات المسيحية والوطنية خطّ أحمر، ليس لأنّ «القوات» ومسيحيّي 14 آذار سيكونون أوّل المتضرّرين فئوياً من وصول خصمِهم التاريخي إلى السلطة، إنّما لأنّ وصول عون سيكرّس التطبيع مع «حزب الله» في الرئاسات الثلاث، واستطراداً بين المسيحيّين والسُنّة والشيعة والدروز، ويجعل التيّار المسيحي الرافض للتطبيع أقلّوياً ومن دون ركائز وطنية، فيما من مصلحة «المستقبل» أن يعزّز حليفه المسيحي، لا إضعافه، وذلك عبر إبعاد خصمه العوني، بغية إبقاء مقوّمات المواجهة مع الحزب قائمة، لأنّ ما سوى ذلك سيؤدّي إلى نجاح الدويلة في احتواء الدولة.