في أحلك ظروف الانشطار والاصطدام بين ألوان الحركة الاشتراكية، بقي مفهوم «اليسار» في أوروبا الغربية يجمع بين الاشتراكيين الديموقراطيين المتصالحين مع الديموقراطية التمثيلية واقتصاد السوق والموالين بشكل أو بآخر للطروحات «الأطلسية» والذين تحوّلت أحزابهم إلى محض انتخابية، وبين الشيوعيين، قبل عقود من تراجعهم، بدورهم، عن مقولة «ديكتاتورية البروليتاريا» والموالين، بتفاوت، للاتحاد السوفياتي حتى سقوطه، والذين أبقوا على المعالم الأساسية للتنظيم المركزي اللينيني.
مثل هذا الشيء كان يمكن قوله عن الحركة الإسلامية حتى بضع سنوات إلى الوراء، إذ كان بالمستطاع أن نُجمِل الإصلاحيين والجهاديين في مجموعها العام، وأن يتّسع مفهوم هذه الحركة لتشمل الإسلامي السني والإسلامي الشيعي، وشيعياً، من يرى دوراً للعمل السياسي نفسه في التعجيل بعلامات الظهور، من ينطلق من محورية فكرة الانتظار وما تقتضيه، وسنياً، من يعطي الأولوية لإحياء الخلافة، وبثوب راشدي، ومن يشدّد على الأسلمة المتدرّجة للمجتمع، وبين من يعوّل على فقه مقاصديّ يؤسلم القوانين «تأصيلياً» في مقابل من يشدّد على تصوّر انقطاعي عن المدونة الحديثة للحقوق، في دعوته إلى إقامة الحدود.
كذلك، على الصعيد التنظيمي، كان يمكن الحديث عن حركة إسلامية عربية وعالمية واسعة تضم أشكالاً تنظيمية عديدة، من أكثرها قرباً للأشكال الشيوعية والفاشية للتنظيم إلى أكثرها تمثلاً للأحزاب الغربية على النمط الغربي، إلى الحركات التي تستلهم النموذج «الطرقي» الصوفي بشكل أو بآخر، وتلك التي تتوفّر فيها خصال من هذا ومن ذاك.
حتى سنين خلت كان يمكن أن ندرج ضمن هذه الحركة الإسلامية الواسعة حساسيات متشعبة، متباينة، متضادة في كثير من الجوانب والأبعاد، إنما مجتمعة على مشتركات غير قليلة، منها تشخيص وقائع ابتعاد المسلمين عن الإسلام، واستنجاد كل من هذه الحركات بالعصر الذهبي كما تحدّده كل منها، لتجسير الهوة بين المسلمين والإسلام، وتمكينهم من التصدي للتحديات الحضارية المفروضة في ظروف انهيار الدول السلطانية، وفي ظل الفاصل الزمني والهيكليّ عن مرحلة تاريخية كان يمكن فيها أن يكتفي الفقه السياسي بثلاثية «الفقهاء والعلماء والعامة»، في حين أنه صار لزاماً عليه أن يتكيّف مع المفاهيم الحداثية من قبيل «الدولة الوطنية»، و»الشعب» و»الجمهورية» و»الدستور» و»الثورة» و»الاشتراكية» و»اقتصاد السوق» وهو ما عملت الحركة الإسلامية والفكر المتطور في أحشائها أو على تخومها وهوامشها على اقتراح إجابات نظرية وعملية لاستيعاب كل هذا.
لكن شيئاً أساسياً تبدّل في السنوات الأخيرة. لم يعد بالإمكان التكلّم عن حركة إسلامية واسعة لا تلغي التناقضات الإيديولوجية والمذهبية والإثنية والتنظيمية بين حركاتها
فهل بالمستطاع اليوم أن نجمل الإخوان المسلمين و»حزب النور» السلفي في مطلق حركة إسلامية مصرية؟ وهل بالمستطاع أن نجمل «داعش» و»حزب الدعوة» و»حزب الله» في مطلق حركة إسلامية مشرقية من دون أن ينقضَّ كل فريق على هذا الزج له مع عدّوه؟ هل ثمة حتى من يمكنه أن يستند إلى مفهوم الحركة الإسلامية عند تناول العلاقات، تضرّرت أو تحسّنت، بين الجمهورية الإسلامية في إيران وبين الحكومة الإسلامية في تركيا العلمانية؟ في أقل تقدير صار المفهوم نافلاً، زائداً، قليل الجدوى. صرنا أبعد ما يكون من رهانات الثورة الإسلامية الإيرانية على حركة إسلامية أممية، متعددة مذهبياً وإيديولوجياً إنما تتمحور حول النظام الإسلامي الإيراني، وصرنا أبعد ما يكون عن التصور الإخواني لهذه الأممية الإسلامية، التي يشكّل التنظيم الإخواني وفروعه شجرة حياتها، وصرنا أبعد ما يكون عن تصور أسامة بن لادن لهذه الأممية الإسلامية التي تتمحور حول تنظيم القاعدة. التشظي اليوم ما عاد يبقي مكاناً لمفهوم جامع للفصائل والتنظيمات الإسلامية على اختلافها يشبه مفهوم «اليسار» الذي ظل يجمع الإصلاحي والثوري والمغامر وألف لون ولون.
ما نعيشه اليوم هو زمن طفرة للدعوات الجهادية المذهبية في هذا المشرق، لكنه أيضاً زمن الخيبة الكبرى للتصورات الإيرانية والإخوانية والقاعدية عن الأممية الإسلامية، وعن الحركة الإسلامية.