الابتزاز الذي يمارَس ضد الدولة في لبنان من قبل المسلّحين في جرود بلدة عرسال، والذي يتمثل بإهانة أهم رموز سيادة الدولة، اي جيشها الوطني، هو النتيجة الطبيعية لاسترخاء هذه الدولة واستهتارها بنفسها، كما انه النتيجة الطبيعية لفتح باب الاستقواء عليها من كل طرف، من لبنان او من الخارج. هكذا تصبح الدول يتيمة، في حاجة الى من يعيد اليها روح الحياة ومعنى الكرامة.
لم تبدأ الدولة في لبنان في نزع ثيابها وفضح عوراتها، مع حرب عرسال، كما قد يخيّل للذين يقرأون صفحات التاريخ من آخرها. هذه مسألة بدأت منذ أخذت هذه الدولة على عاتقها تلزيم أمورها وحدودها وقراراتها الوطنية لكل طارئ يستطيع الاستقواء. هذه مسألة بدأت منذ تحولت حدود جنوب لبنان الى حدود سائبة، يستطيع اي كان ان يتصرف فيها كما يشاء، وان يتخذ القرار الذي يناسبه، فيما دولة لبنان وجيشها هما آخر من يعلم. والنتيجة كانت طبعاً ان الذين كانوا يدفعون ثمن هذا الفلتان هم اللبنانيون انفسهم في الدرجة الاولى، وجيشهم الذي الصقت به، ظلماً، كل انواع التهم بالتقاعس وحتى احياناً بـ «العمالة». ودفع ثمن الفلتان كذلك ابناء المناطق الجنوبية. آنذاك لم يرفّ لدولة لبنان جفن عندما وقّعت على اتفاق، كان اسمه أول خرق لسيادتها، اي «اتفاق القاهرة». كان الجميع يعلم بتفاصيل ذلك الاتفاق وما يترتب على الدولة من التزامات بموجبه، باستثناء اللبنانيين ومجلس نوابهم.
وكرّت السبحة بعد ذلك، وكانت نتيجة طبيعية لهذا الفلتان. ذلك أن الدول التي تستسهل اهانة نفسها لا بد ان تفتح هذا الباب امام الآخرين، من أقربين وأبعدين. دعك هنا من اسرائيل، فهي دولة عدوة، واستهتارها بالمنطقة وبسيادة دولها لا يقتصر على لبنان. لكن ماذا عن الفلسطينيين، الذين استضافهم لبنان، وتحمّل نتيجة ذلك فوق طاقة اي بلد عربي على التحمل، بشرياً واقتصادياً وامنياً، وانتهى الامر الى ان قراره الوطني المتمثل بتشكيل حكوماته والسيطرة على مناطق من ارضه وتحديد علاقاته الخارجية، صارت كلها تتخذ في منطقة الفاكهاني، مقر القيادة الفلسطينية، وبمعرفة وموافقة فريق من اللبنانيين.
في غياب الدولة وتقصيرها عن حماية ابناء الجنوب، كان من الطبيعي ان يقوم هؤلاء بالمهمة بانفسهم. هكذا قامت المقاومة بملء ذلك الفراغ، وتحولت هي ايضاً وبفضل انجاز تحرير الجنوب الى قوة رديفة للجيش اللبناني، بل ان هناك من يرى ان قوتها باتت تفوق قوة الجيش نفسه. وهكذا صار في امكان «حزب الله» أن يبرر سيطرته الكاملة، الامنية والسياسية، في مناطق نفوذه، بحجة غياب الدولة وعجزها عن القيام بواجبها. ومع ان هذه السيطرة اصبحت هي الحجة التي تستخدم اليوم للقول ان «حزب الله» هو وراء فشل مشروع قيام الدولة القوية، فإن من غير الواقعي تجاهل الظروف التي أدت الى بلوغ الحزب ما بلغه اليوم من قوة، وهي الظروف المتصلة بشلل الدولة وتلزيمها شؤون مواطنيها لكل قادر على الالتزام.
اين عرسال من هذا التاريخ المؤلم؟
عرسال حلقة في المسلسل نفسه. وما يحصل فيها اليوم هو النتيجة الطبيعية لغياب الدولة عن السيطرة على حدودها، وعجزها عن الامساك بقرارها وفرض ارادتها من خلال جيشها الذي يفترض ان يكون القوة الوحيدة المسلحة فوق الارض اللبنانية. ومثلما دفع الجيش في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ثمناً غالياً من كرامته مقابل عجز السياسيين عن تحصينه بقرار واضح يحمي مهمته على الحدود الجنوبية، ها هو اليوم يدفع الثمن ايضاً، من كرامته ودماء عناصره، مقابل العجز عن تحصين مهمته عند الحدود الشرقية. ويتحمل المسؤولية عن ذلك كل الذين جعلوا تلك الحدود سائبة، فأسهموا في اغراق لبنان في الحريق السوري، سواء بالتورط فيه او في عبور نيرانه الى الداخل.
لعل الوقت متأخر اليوم لمطالبة الدولة اللبنانية بأن تكون اسماً على مسمى. غير انه ليس متأخراً للقول إن هذه الدولة، اذا لم تقم بأبسط واجباتها لحماية جنودها وحدودها ومواطنيها، فإن عرسال لن تكون آخر بلدة تطبخ فيها الصفقات في غفلة عن اللبنانيين.