«عون في بعبدا والحريري في السراي»، هذا ما ظنّه البعض غداة عودة الرئيس سعد الحريري الى لبنان. كثُرت التحليلات وفاضت التخيُّلات وتنوعت الإستنتاجات عن ارتباط هذه العودة بعد غياب أكثر من ثلاث سنوات بنضوج إستحقاق إنتخاب رئيس للجمهورية.
في الواقع الإقليمي، خُلطت الأوراق بشكل دراماتيكي، وقُلبت كل الحسابات والمراهنات. ففيما كانت الإستراتيجية الإيرانية تُركّز على أولوية حماية مكتسباتها العسكرية والأمنية في سوريا والعراق ونفوذها القوي في لبنان، خلال المفاوضات مع الدبلوماسية الأميركية، إنقلبت المعطيات الميدانية بانفلات «داعش» وتهديدها أمن إيران الإقليمي، إضافة الى تهديد أمن كل دول المنطقة ومكوّناتها وإتنيّاتها.
هنا حصل تقاطع مصالح إستراتيجي بين القوى الإقليمية وفي طليعتها المملكة العربية السعودية وإيران، على حتمية مواجهة مشروع «داعش»، القاضي بإقامة دولة إرهابية تحت عنوان «دولة الخلافة الإسلامية» وفتح الطريق أمام تفتيت دول المنطقة الى دويلات متناحرة.
لم تجرِ محادثات مباشرة بين السعوديّين والإيرانيّين في مواجهة هذه التطورات، ولا في أي من الملفات الخلافية العالقة بينهما. لكن خطر «داعش»، بما تملك من إمكانات قتالية وإرهابية وبشرية ومالية وفكر تكفيري وتدميري، دفع الى اقتراح إيران مشروع استراتيجية موحدة لمكافحة الإرهاب.
من هنا، إستطاعت فرنسا إيجاد مساحة مشتركة بين السعوديّين والإيرانيّين للتخلّي عن حكومة ميقاتي – «حزب الله»، وتأليف حكومة أقرب الى شروط قوى الرابع عشر من آذار لا ثلث معطلاً فيها، ولا رئيس حكومة حيادياً، وإسناد وزارات الأمن من الداخلية الى العدل والإتصالات إليها.
ومن هنا أيضاً، تم إيجاد مساحة مشتركة تتخلّى فيها إيران عن رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايته نوري المالكي، على رغم حصوله على أكبر كتلة نيابية في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة، بهدف تأليف حكومة وحدة وطنية ترفع الشعور بالغبن عن شرائح واسعة في المجتمع العراقي، نتيجة سياسات المالكي ضد السنّة والأكراد وقسم من الشيعة.
وما يسري في بغداد يسري في لبنان. فمعركة عرسال الأخيرة لم تكن مجرد حادث، بل كانت جزءاً من خطة كبيرة يتم الإعداد لها لإيجاد موطىء قدم لدولة «داعش» على البحر الأبيض المتوسط وتحديداً في الشمال. ولا شيء يضمن ألّا تتكرر مثل هذه المحاولات غدراً عسكرياً وأمنياً.
لذلك بادرت المملكة العربية السعودية الى توفير الغطاء السياسي للجيش، منعاً لأي استغلال مذهبي، مثلما سارعت الى تأمين الدعم المالي بمليار دولار وبعودة الرئيس الحريري. لن تقبل الرياض في لبنان ما رفضته في العراق، كما أن طهران لن تتمسك بـ «مالكي» في بعبدا بعدما تخلّت عنه في بغداد.
الإستراتيجية الجديدة في هذه المرحلة تقوم على مبدأين:
أولاً: إعطاء الأولوية المطلقة للأمن ومكافحة الإرهاب من لبنان الى سوريا والعراق.
ثانياً: الشراكة مع قوى الإعتدال في مواجهة التطرّف، أو على الأقل ربط نزاع بين القوى الإقليمية والوطنية والتخفيف من الإحتقان المذهبي الخطير عبر إزالة مشاعر الغبن وتعزيز قوى الإعتدال خصوصاً في الطائفة السنيّة، لوأد البيئة الحاضنة المتنامية للفكر الداعشي.
وهذا ما يقطع طريق بعبدا أمام أي مرشح لفريق الثامن من آذار.