لم يكن تفصيلاً عابراً أن يطلّ ميشال عون «لايف» في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين على شاشة «تيار المستقبل» للمرّة الأولى منذ أعوام عدّة. وليست بالطبع زلّة لسان حين يتّكئ «الجنرال»، في معرض توضيحه لمفهوم الميثاقية، على إعلان لسعد الحريري يقول فيه «نريد رئيسا يمثل وجدان المسيحيين وقويا ايضا». بنظر عون هذا أحد أوجه الميثاقية. ولا بأس أن نطق به «الشيخ».
بالتأكيد ليست القصّة في العامل المهني الذي يفرض النقل المباشر لما سيبوح به «الجنرال» بعد صمت طويل والاحتجاب عن منبر الرابية. على ما يبدو، سيتعيّن على حلفاء بيت الوسط، أن يتأقلموا مع فكرة أن عون سيصبح ضيفا مرحّبا به على الشاشة الزرقاء، هو ومن يمثّله. والمفاجآت مستمرة!
في الأشهر الماضية تناوب بعض أعضاء «تكتل التغيير والاصلاح» على تلاوة بيانات التكتل. كان عون يتجنّب الظهور المباشر. يلتقي بسياسيين وديبلوماسيين في صالون الفيلا. يبلّغهم ما يجب أن يعرفوه ويستمع اليهم. أما الاتصالات على خط بيروت ـ باريس – الرياض فكانت ناشطة، مع سعد الحريري أو مع ممثليه.
انتظر عون حتى انتهاء ولاية الرئيس ميشال سيلمان، ومعه انتهاء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد، ليعلن مباشرة من الرابية أن «شغور موقع الرئيس يعني غياب الميثاقية، ومع سقوطها تسقط الشرعية وتنتفي السلطة».
لكن عون لم يذهب نحو المقاطعة النهائية من باب الضغط لانتخاب رئيس للجمهورية، ولم يتعاط مع المجلس حصرا كحالة انتخابية. فالتشريع جائز فقط تحت عنوانين: «إعادة تكوين السلطة»، وقصد بذلك تحديدا إقرار قانون الانتخابات كملف ملحّ يسابق الوقت. وتأمين مصلحة الدولة العليا، قانون سلسلة الرتب والرواتب واحد منها.
أوساط عون تؤكّد أن «نية الصدام لن تكون موجودة لا في الحكومة ولا في المجلس، انسجاما مع روحية التوافق المسيطرة على الملف الرئاسي».
في تفسير أوسع لهذه المعادلة سيفرض عون نمطاً مغايراً في التعاطي مع الحكومة بعد انتقال صلاحيات الرئاسة الأولى اليها. فميشال سليمان الذي كان شريك رئيس الحكومة في التفاهم على جدول الأعمال صار رئيسا سابقا. وبالتالي يتعيّن على سلام أن يتفاهم منذ الآن مع الـ23 وزيرا الموجودين في الحكومة.
اختصار هذا المشهد سيقود حكماً الى توافق الكتل الوازنة على الشاردة والواردة والبقية تلحق وتبصم، هذا ما تؤكده أوساط الرابية.
قال عون ما قاله في مؤتمره الصحافي لأكثر من سبب. منذ ساعات الشغور الأولى يتحوّط رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» من إمكانية سعي مجلس النواب، ربما بهمّة الحلفاء ووليد جنبلاط و«تيار المستقبل»، للتمديد لنفسه.
صحيح أنه يضغط باتجاه قيام المجلس الحالي بواجباته لانتخاب الرئيس، لكن ثمّة مهلة أخيرة لهذا الواجب.. بعدها تختلف الحسابات.
فقد ربط عون مشاركة فريقه المسيحي في جلسات مجلس النواب بعاملين فقط: إقرار قانون الانتخابات، وذلك قبل 20 آب، وهي آخر مهلة لدعوة الهيئات الناخبة. وقد أسعفه الرئيس ميشال سليمان بتوقيع مرسوم دعوة مجلس النواب الى عقد استثنائي. أما المواضيع الملحّة، كقانون سلسلة الرتب والرواتب، فالتوافق المسبق هو الممرّ الإلزامي لدفع المقاطعين للمشاركة في إقرارها.
بهذا المعنى، يقطع ميشال عون الطريق منذ الآن على احتمال التئام مجلس النواب لتغطية الفراغ الحاصل على مستوى رئاسة الجمهورية بفراغ «أبشع» عبر تمديد إقامة النواب الممدّد لهم. هذا في الوقت الذي اعتقد فيه كثيرون أن لحظة تجاوز تاريخ 25 أيار ستعني حكما تمديداً ثانياً لمجلس النواب.
المقرّبون من عون يؤكّدون «سيفعل المستحيل من أجل منع حصول هذا الأمر. إذا فشل المجلس الحالي بانتخاب الرئيس، فسيتعيّن على مجلس النواب الجديد القيام بالمهمّة، سواء حصلت الانتخابات وفق قانون جديد أو وفق قانون الستين إذا لزم الأمر».
هنا تفيد معلومات أن باب التفاوض الرئاسي «المحلي»، الذي كان من المفترض أن يقفل عند عتبة 25 أيار، عاد وفتح حتى العشرين من آب. لكن تحت طائلة سير الحريري بالتزام تجاه عون بإقرار قانون جديد للانتخابات. برأي عون هنا الاختبار الحقيقي للحريري «أعطني قانون انتخابات. وإذا قصّرت في منحي مقاعد إضافية في قانون انتخابي، فكيف يمكن أن تسير بي مرشّحا للرئاسة!».
في قاموس رئيس «التكتل»، ان حصر التشريع بإقرار قانون الانتخابات سيفرض على حكومة الرئيس تمام سلام التعاطي مع واقع إجراء الانتخابات في موعدها المحدد بين 20 أيلول و20 تشرين الثاني تاريخ نهاية ولاية المجلس الممدّدة.
هذه المرّة ينطلق عون في مقاربته للاستحقاق النيابي من زاوية أوسع بكثير. تعب «الجنرال» من الأكثريّتين المعطّلتين داخل المجلس، وها هو يرى وليد جنبلاط يتمتّع بالقدرة على تعطيل الاستحقاق الرئاسي بعشرة نواب، «لأن الـ16 صوتاً جاؤوا بالاستعارة نهار الانتخابات ونحن نعرفهم اسميا»، كما قال.
يتعاطى مع الواقع القائم بشيء من التسليم بأن المجلس الحالي لن يكون قادراً على انتخاب رئيس جديد. وبالتالي، فإن عون الرافض الشرس للتمديد لمجلس النواب مرة أخرى، سيضغط باتجاه إجراء الانتخابات النيابية التي قد تفرز أكثرية وأقلية على ضوء تحالفات نوعية جديدة كان قد مهّد لها بحديثه عن «المثلث القوي».
هي أكثرية الـ65 صوتاً التي قد توصله، بعقله الباطني، الى قصر بعبدا من دون «جَميلة» أحد. وبين السيئ والأسوأ، لن يمانع عون أن تولد هذه الأكثرية على يد القابلة المقيتة «قانون الستين».
لكن ماذا عن الاستحقاق الرئاسي الآن؟ بدا عون مصراً حتى اللحظة على التاكيد أن لا «خطة B«، لا بل تشديد على «A+». السيناريو هو ذاته. يطرح نفسه، من دون الحاجة الى إعلان رسمي، مرشّحا توافقيا بانتظار توافر المعطى الذي يترجم الأقوال والنيات الى أفعال.
التواصل بين الرابية و«تيار المستقبل» لا يزال شغّالا. في الجزء الأكبر منه مداولات حول خريطة طريق قانون الانتخابات الجديد وتحالفاتها. العراق وسوريا ومصر نماذج محرجة، برأي عون، تجعل الداخل اللبناني محكوماً بإجراء الانتخابات النيابية.
لكن في الوقت الذي يبدو فيه عون متمترسا عند جبهة طرحه الرئاسي التوافقي، من دون الإيحاء بإمكانية الحديث عن مرشح آخر يتبنّاه لإكمال السباق الرئاسي بعد 25 أيار، فإن رواية التمديد لسليمان لم تنته ذيولها بعد، وفيها الكثير ممّا يكشف خبايا الغرف المغلقة.
فالعارفون يقولون إن العماد عون كان مستعداً للسير بالتمديد سنة لميشال سليمان، على أن يمنحه الحريري في المقابل ضمانة مسبقة بالسير به مرشحاً للرئاسة. رفض الحريري وطُوي التمديد نهائيا، مع العلم أن الممسكين بمفاصل اللعبة الرئاسية يجزمون بأن «حزب الله» كان مستعداً للسير بهذا الخيار تاركاً لحليفه المسيحي الكلمة الأخيرة.
لسان حال «الجنرال»: «عندما تصبح المعركة جدّية ومن دون مناورات، عندها نرى إذا كنا سنترشّح، أو نترك الآخرين كي يصلوا إلى سدّة الرئاسة».
هي جملة كفيلة، برأي المطّلعين، للتأكيد أن ميشال عون لا يتصرف وفق قاعدة «أنا أو لا أحد». وأن الـ«خطة ب« موجودة فعلا.. لكن وقتها لم يحن بعد. قد تكون قانون الانتخابات وقد تكون «أرنب المثلث القوي» وما يمكن أن يصنعه من «معجزات». الأهم أن «الجنرال» يقرّ ويعترف «عند وقوف هذا المثلث على رجليه ستطير كل بيضات القبّان»!