تأكّد لزوّار العاصمة الفرنسية في الأسابيع الأخيرة انّ بإمكانهم أن يعودوا منها بقراءات تفصيلية وروايات تُحكى عن الظروف التي رافقت الإستحقاق الرئاسي في لبنان، فقد تحوّلت العاصمة الفرنسية منذ فترة غير قصيرة محجّة للمهتمّين بالملفات اللبنانية، ومنها ملف الاستحقاق الرئاسي، تزامناً مع المبادرات الفرنسية. فما هي قراءة العاصمة الفرنسية للتطورات اللبنانية؟
أدّى التفاهم الذي قام بين الرئاستين الفرنسية واللبنانية الى وَضْع الملف اللبناني في عهدة رئاسة الجمهورية الفرنسية، فكان فريق هولاند المرجع الرئيس في أيّ نقاش يجري بين البلدين حول ايّ من الملفات الأمنية او العسكرية او السياسية والدبلوماسية.
وعلى هذه الخلفيات كان الاستحقاق الرئاسي في لبنان ملفاً استثنائياً على طاولة الرئيس في قصر الإليزيه، قبل ان تبدأ المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس العتيد فجاء حضوره طبيعياً في سياق الاهتمامات الفرنسية المتشعبة بالملفات اللبنانية، ولا سيما تلك التي تقرر إطلاقها في لقاء «مجموعة العمل من اجل لبنان» التي انعقدت في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 ايلول الماضي، ولا سيما في توفير كلفة الآثار السلبية على الوضع الاقتصادي في لبنان، والتي قدّرها البنك الدولي بـ 7 مليار دولار إضافة الى دعم الجيش اللبناني والقوى الأمنية الأخرى ومساعدة المجتمعات المضيفة لللاجئين السوريين وتقاسم كلفتهم المريعة طبياً وتربوياً وانسانياً واجتماعياً وأمنياً.
ويعتقد زوّار العاصمة الفرنسية انّ باريس احتلت مساحة غير عادية في معالجة الملفات اللبنانية المالية والإقتصادية والعسكرية، فتحوّلت فنادقها محجّة للمهتمين بالانتخابات الرئاسية من مسؤولين لبنانيين وعرب وغربيين، بالإضافة الى المهمة التي اضطلع بها الفريق الإستشاري للرئيس هولاند مع العديد من العواصم العربية والغربية المؤثرة في الساحة اللبنانية، والتي تنادت لمناقشة هذا الملف.
وفي حلقة شهدتها العاصمة الفرنسية خُصّصت للبحث في الملف اللبناني والأزمة السورية، وشارك فيها لبنانيون وكبار معاوني الرئيس الفرنسي ومستشاريه، تلمَّس اللبنانيون منهم معرفة فرنسية عميقة في ملف الإنتخابات الرئاسية جعلتهم في مصاف المطّلعين على أدق التفاصيل بما فيها المخارج والصيَغ التي طرحت للتمديد وسقطت. وثبتَ لديهم أنّ سَعيهم الى التمديد كان قد بُنيَ على أنّ أيّ تغييرات غير متوقعة في لبنان والمنطقة في ظل استمرار الأزمة السورية بلا أفق للحل، ويمكن لسليمان ان يواكبها لتقريب وجهات النظر قبل دخول البلاد في مرحلة الشغور، فكلّ التقارير كانت توحي بالفشل في انتخاب الرئيس العتيد من أجل إمرار المرحلة بأقلّ الخسائر الممكنة.
وقال احد كبار المستشارين انّه كان يمكن ان تكون الأمور في لبنان أسهل بكثير لولا تورّط البعض في الأزمة السورية، ولا سيما العمليات العسكرية التي قادها آلاف من رجال «حزب الله» بكامل عدتهم وعديدهم، ما رفع من حجم التوتر في البلاد وجعلها على خط الزلزال السوري وترددات المحاور الكبرى المتورطة فيه، وعكس انقسامات عميقة بين اللبنانيين ساهمت في تعقيد الأمور الى المرحلة التي بلغتها الأزمة.
وقال أيضاً: لم نوفّر في جهودنا الإستثنائية التي بذلت مع العواصم الكبرى والقوى المؤثرة في لبنان ما يمكن ان نقدمه، فالملف اللبناني تقدّمَ الملفات الكبرى التي وضعت على طاولة القمّة الفرنسية – السعودية بين الرئيس فرنسوا هولاند والعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز، فكانت الهبة العسكرية السعودية إحدى ثمارها. ويمكننا ان نضيف اليها جهود فريق العمل الذي قاد مفاوضات مضنية مع القيادة الإيرانية، وقد تقدمهم مستشار هولاند لقضايا الشرق الأوسط السيد فرنسوا جيروم الذي زار سرّاً العاصمة الإيرانية ثلاث مرات في اقل من اسبوعين، وموفده الى لبنان المستشار ايمانويل بون الذي التقى القيادات اللبنانية أكثر من مرّة، وهما تعاونا بشكل وثيق مع سفيرَي بلديهما في طهران وبيروت.
واضاف: لا يمكننا ان نتجاهل ما بُذل من جهد مع القيادة السعودية، فكانت باريس مسرحاً للقاءات القيادات اللبنانية ولآخرين من دول عدة. واستضفنا في اقلّ من شهر وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل مرتين للبحث في هذا الإستحقاق من اجل توفير المخارج الممكنة لمنع الوصول الى ما وصلتم اليه.
وكل ذلك كان يجري لتبادل الأفكار والمقترحات التي يمكن ان تقطع الطريق على دخول البلاد مرحلة الشغور. ولكن للأسف على رغم ما تحقق من معطيات إيجابية في تقريب وجهات النظر بين العواصم المؤثرة على الساحة اللبنانية، جاءت التطورات السلبية لتمحو قسماً منها وتعطّلها، وتحديداً في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، فسقطت كل محاولات التمديد التي اصطدمت في وقت من الأوقات برفض عدد كبير من الأطراف اللبنانية لأسباب كنّا نعتقد انها ترتبط بقدرتهم على إدارة شؤونهم بأنفسهم وعلى حسم الأمور وانتخاب الرئيس الجديد ضمن المهلة الدستورية.
ولم يخف المسؤول الفرنسي عتبه على القيادات اللبنانية «التي لم تكن على قدر المسؤولية ولا على مستوى الإستحقاق الذي يعيشه لبنان مَرّة كلّ ست سنوات، من اجل توفير انتقال سلمي من عهد الى عهد، فقدّم البعض مصالحه الضيقة في افق ضيّق لا يتطلع الى المستقبل البعيد، فرفض المبادرة تلو المبادرة، ما شَكّل صدمة قوية لنا لا يمكننا ان نخفيها او نتجاهلها.
واستطرد قائلاً: لا نخفي عليكم اننا ومنذ ان أخذنا على عاتقنا هذه المبادرة، كنّا نخاف على مستقبل البلاد وامنها واستقرارها الى حدّ فاق حرص اللبنانيين انفسهم، ولنا محاضر في هذا الخصوص، وكانت «الطحشة» التي قمنا بها من اجل التمديد خوفاً ممّا يزعزع الإستقرار وشلّ المؤسسات الدستورية في البلاد. وكنّا في مرحلة نناقش فيها تقارير خطيرة تتحدث عمّا هو متوقع من أحداث امنية، لكن والحمد لله عندما توافرت لنا الضمانات الكافية للحفاظ على امن البلد وقدرة الجيش اللبناني والمؤسسات العسكرية والأمنية على ضبط الوضع وعدم الإنجرار الى ما يخيفنا، تراجعنا في الأيام الأخيرة عن فكرة التمديد وسَلّمنا بالأمر الواقع على امل ان تنجح الحكومة اللبنانية التي تسلّمت مهام رئيس الجمهورية في إدارة المرحلة الإنتقالية من اجل إدارة شؤون الناس بهدوء وحكمة وروية، فلا يلجأ أحدهم الى ما يعكّر صفو الأمن، وإحياء النعرات المحلية او ما يستفزّ ايّ طرف آخر ويزيد من هواجسه.
وشدّد المسؤول الفرنسي انّ فهمنا للدستور اللبناني المشتقّ من الدستور الفرنسي يحدد صلاحيات الحكومة في مثل هذه الحالات، ويدعوها، بالإضافة الى القيام بأعمال إدارة الدولة والمؤسسات، الى ان تُبقي جهودها الأساسية منصبّة على انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية في اقصر الآجال الممكنة قبل القيام بأيّ عمل آخر.
وعليه، لا يرى المسؤول الفرنسي حلولاً او مخارج في وقت قريب. فلدينا ما يكفي من المعلومات بأنّ الحلول لن تأتي الى لبنان لوحده بعد دخوله مرحلة الشغور الرئاسي، وبمعزل عن محيطه. ولذلك فهو يعطي أهمية بالغة للحوار السعودي – الإيراني كمحطة اساسية نراقبها بدقة متناهية ونشجّع عليها من دون ان نهمل أهمية الحوار الداخلي بين اللبنانيين، سواء ذلك الحوار الجاري في الداخل او الخارج لكسر الحلقات المقفلة التي تحكمت بجلسات الإنتخاب من اجل التفاهم على رئيس توافقي تُجمع عليه اكثرية القوى اللبنانية.
وختم المسؤول الفرنسي قائلاً: حتى ذلك الوقت سنكون من أدقّ المراقبين للوضع في بلدكم الى جانب العديد من أصدقائنا في الدول والعواصم التي تشاركنا القلق على مصيره من اجل حماية الإستقرار فيه، على رغم ما لدينا من ضمانات وما تلقّيناه من تأكيدات بأنّ الجيش اللبناني قادر على ضبط الأمور ومنع ايّ فلتان من ان يتوسّع بشكل خطير ليهدد الكيان.