من الطبيعي والمفهوم أن يكون البطريرك الراعي كما كان في اليومين الماضيين، وخصوصاً مع مرور الساعات الأخيرة لولاية رئيس الجمهورية ودخول البلاد في مرحلة شغور قصر بعبدا من سيد. فالرجل مؤتمن على الكيان أكثر من أي رئيس أو مسؤول أو سياسي فيه. ففي لبنان هناك من يمارس الشأن العام من دون أي عهد دفاع عن الوطن ولا عن شعبه.
وهناك منصب واحد يقسم شاغله على صون «دستور الأمة اللبنانية وقوانينها»، طيلة ستة أعوام، لكن سيد بكركي هو من يقدم كل نذور كهنوته وينذر كل حياته لهذه البقعة من الأرض الاسمها لبنان، ولتلك الحفنة من الناس الاسمهم لبنانيون. لا هوية له إلا تلك ولا أهل له إلا هؤلاء. ولا حياة ولا أهداف ولا تطلع ولا رسالة، إلا خير من أعطي له مجده، فيجيّره مع قربانة كل صباح بصولجان محبته، مجدَ شركة لكل أبناء هذا البلد… ولأنه كل ذلك، طبيعي ومفهوم أن يعيش الراعي ساعات الغضب التي عاشها ويعيشها هذه الأيام. كأنه «الغضب المقدس» الذي تحدث عنه الأكويني، هو المؤمن بلاهوت توما و«الخلاصة» والخلاص…
غير أن مسافة قليلة من التفكير والتدقيق، كافية لإدراك أن غضب البطريرك ليس خوفاً ولا دفعاً نحو الذعر والرعب. فالرجل أكثر من يعرف أن مؤمنيه ومواطنيه قد اجتازوا أياماً أكثر صعوبة وأشد هولاً. هو من عاش وعايش زمن الوصاية السورية. يوم صارت الجغرافيا بكاملها تحت الجزمة، والديمغرافيا بكليتها تحت عسف زيادة من هنا بتجنيس، أو نقصان من هناك بقهر وتيئيس. يوم صارت المؤسسات أشكالاً صورية والرؤساء دمى منصبة وثلاثة أرباع من يزورونه اليوم من سياديين مجرد مصفقين لعميل أو مصطفين على باب حاكم عسكري. والسيد الراعي كان أول من ساهم في ذلك الزمن في صياغة «رجاء جديد للبنان»، وفي صناعة الأمل وانبعاث الحلم. من السينودس إلى السير معاً على دروب كل قرية ومنفى ومعتقل. وهو أول من أدرك كيف نجح المسيحيون يومها في «تدبير خلاصهم». ظلوا ينحتون الصخر بإبرة، حتى لاقاهم كل مواطنيهم في إرادة الحرية. وافاهم أولاً وليد جنبلاط في الجبل مع البطريرك صفير، ثم لاقاهم أهلهم الشيعة من حوارات مونترو والعاقورة – هل يذكر فارس سعيد؟ – وصولاً إلى البريستول نفسه، حيث كان أهل جبل عامل هم أصحاب الكلمة والموقف. قبل أن يستكمل النضال بدم رفيق الحريري وبلحظة إقليمية، فكانت سيادة وكان استقلال ثان… قبل أن يرتكب الخطأ ويجهض النصر ويكبو الاستقلاليون وتهدر اللحظة والفرصة وتستمر المؤآمرات، لكن ذلك كله لم يكسر اللبنانيين. في تموز 2006 جاءتهم أعتى آلة عسكرية همجية في العالم. 33 يوماً من الجحيم المرمية على الرؤوس والبيوت والجسور. مليون لبناني انتقلوا من نصف وطن مهدم إلى نصف وطن مهدد. فكانت يومها مصادفة ميشال عون، أو هي رؤيويته، أو حتى مصلحته كما يود خصومه الاتهام، شاءت أن يكون قد أرسى تفاهم القوي الصادق مع السيد القوي الصادق. فأُنقذ لبنان، بل انتصر، وللمرة الأولى فعلاً، بجيشه وشعبه ومقاومته. بعدما كان المقاومون قد انتصروا وحدهم على العدو الاسرائيلي على مراحل، منذ عام 1982 حتى تحرير الألفين…
اليوم يشغر الكرسي الرئاسي، لكن السلم الأهلي غير شاغر. مليء هو باطمئنان اللبنانيين مشغول بثقتهم. مسالمون هم متصالحون، عن اقتناع أو عجز أو تعب أو سأم… متصالحون. يكفي للبطريرك أن يسرح نظره من شباك الطائرة الخاصة الذاهبة به إلى «مغطس» يسوع على نهر الأردن، فيدرك كيف قدَر لسياسة ميشال عون ونهجه منذ زهاء عقد، أن يهبا الأمن والأمان لكل ابن من أبناء بكركي على امتداد مساحة الوطن. من رميش إلى شدرا، ومن بعلبك التي افتتحت قبل أسبوعين «ساحة مريم» وسطها، إلى بريح التي رعى غبطته عودتها إلى ذاتها واستعادتها ضحاياها السابقين مشاريع مواطنين دائمين…
حتى انفجرت المنطقة ثورات دموية وعواصف عنفية عنيفة من قرون بائدة وموجات تكفيرية وفتناً مذهبية وفؤوساً لا تعف عن رأس، من أبو العلاء المعري حتى الراهب المؤيد لحملة السيوف أنفسهم… جنون مطلق من الدم والنار يلف كل المنطقة، ومأزق لا أفق له، بين طاغوت الجيوش وموت الوحوش. فالتفت عون صوب الشريك الآخر. ذهب إليه في منزله في منفاه. بلا عقد ولا حقد ولا مركبات نقص. وضع يده في يد سعد الحريري، شد عليها صوبه، صوب تفاهم يكمل التفاهم ويستكمله، بمعنى الكمال وبُعده. كمال لا ينقلب على حليف ولا يقصي منافساً ولا يناور على خصم ولا يستفرد ولا يتفرد. ولا يحمل أياً من أوهام الثنائيات أو الثلاثيات أو الرباعيات. ذهب عون إلى الحريري صادقاً عفوياً شفافاً. فصدَقه الرجل وصدقه. قال الزعيم الختيار لشريكه الشاب: هذه رؤيتي للمقاومة وللسلاح ولسوريا. فرد عليه مضيفه: وهذه حدود قدرتي وهذه سدود العوائق الخارجية وهذه مقتضيات الصبر وعملنا وانتظارنا. ولم يكذب الحريري بدوره على حلفائه ولا حتى على الأصدقاء. قال لجعجع وللجميل ولجنبلاط: علاقتي مع عون جدية، عميقة واعدة مثمرة منذ أول لحظة. نظر في عيونهم بلا ندم ولا ذرائع وكاشفهم: ليتنا تفاهمنا منذ عام 2005، لكنا قد وفرنا خسائر وثمرنا مكتسبات. كل ذلك فيما حسن نصرالله على علم بكل تفصيل، مطمئن واثق آمل متفائل… هذا كل ما أراده عون. أن يستكمل تفاهم كل لبنان مع كله. من أجل رئاسة؟ لمصلحة شخصية له ولعائلته ولجماعته؟؟ من أجل أنانية شخص أو جنون رجل يدق على باب الثمانين من عمره، ويطمح إلى تحقيق السلام لكل باب وعتبة في وطنه لثمانين عاماً مقبلاً وأكثر؟؟ هل هي جريمة؟
يدرك البطريرك الذاهب إلى مدينة السلام المحتلة، أن سلام لبنان المحرر يستحق أن يحصَن ميشال عون وأن يحتضن سلامه. تماماً كما قصدت بكركي في مذكرتها الوطنية وفي بيان لجنتها السياسية وفي خلاصة لقاءات أقطابها. ويدرك الصرح كذلك أن من واجبه الوطني ألا يسمح بقتل ميشال عون، لا كرمى لحاقد ولا خدمة لفاسد. وتدرك بكركي في ذروة الغضب المقدس، أن حرصها على عدم قطع رأس ميشال عون وعلى عدم إعدام تفاهمه وسلامه ومشروعه الفريد الوحيد، هو الباب الوحيد صوب استذكار ما قاله مار يوحنا بولس الثاني: لا تخافوا… بل ادخلوا في الرجاء!