لم يكن ينقص اللبنانيين المزيد من الدماء والدموع، فكانت أمس فجيعة الطائرة الافريقية (الجزائرية) التي زادت في عمق الجراح وغزارة الدماء، وهذا هو قدر هذا الشعب المناضل، حامل دمه على كفه، يجوب الآفاق براً وبحراً وجواً منذ أن طافت أول خشبة على سطح المياه، ومنذ أن حلّق أول جناح طائرة في الجو.
إنه قدر ولا كالأقدار.
إنه هذا الإنسان اللبناني الذي يلاعب الأخطار في ملعب هو هذا الكون برمته. حتى إشتهر بأنه على موعد دائم مع قدره.
ولم يكن من عبث الكلام المنسوب الى الرئيس الفرنسي العملاق الجنرال شارل ديغول، رجل الكلمة والسيف، وأحد أبرز مفكري القرن العشرين الماضي، وقد قال: «إذا حط الإنسان على سطح القمر لوجد لبنانياً قد سبقه الى هناك وانشأ جريدة». والجنرال ديغول الذي يتأسف الفرنسيون على أيامه خصوصاً في الحقبة الأخيرة إذ حل في قصر الإليزيه نفر من أصحاب الضحالة وموهوبي التفاهة والفاسدين (كما أثبت القضاء الفرنسي)… الجنرال ديغول هذا أعطى اللبنانيين حقهم ليس فقط في أنهم رواد آفاق، بل أيضاً في أنهم أهل ثقافة وناشرو فكر ومعلمو أجيال… وذلك من خلال حديثه على الجريدة.
والعشرون لبنانياً الذين لقوا قدرهم المأساوي أمس هم، في تقديرنا، شهداء لهذا الوطن: شهداء الإقدام، وشهداء الطموح، وشهداء لقمة الكرامة…
هؤلاء مثلهم، مثل مئات ضحايا حوادث الطيران التي سبقت، بل آلاف الضحايا دفعوا ويدفعون الثمن الأغلى (إذ ليس أغلى من الحياة)، لأنهم يبحثون عن فرص توفر لهم الحياة الحرة الكريمة، فيشكلون رافداً حقيقياً لهذا الوطن الصغير المعذّب فيضخون الأموال الى ذويهم، وينشئون القصور و«الفيلات» وسائر أنواع المنازل، ناهيك بالمؤسسات التجارية والإقتصادية على أنواعها… خصوصاً وانهم على تواصل يومي مع الوطن الأم، فلا يقطعون زياراتهم، ولا يترددون في تمضية المناسبات كلها على أرضه، أعياداً وإحتفالات وتواصلاً تاماً.
إن الإغتراب (الإنتشار) اللبناني هو ملحمة بكل ما للكلمة من معنى، إنه ظاهرة تمتاز بالكثير عن سائر الإغترابات لأي بلد كان، فليس شأناً عادياً أن يكون بلد من البلدان لا يتجاوز عدد سكانه الأربعة ملايين نسمة في أحسن الأحوال، له نحو عشرين مليون متحدّر في دنيا الإغتراب بينهم أكثر من عشرة ملايين في بلد واحد (البرازيل). إن هذه الظاهرة دليل على ما يستبد في طوايا اللبنانيين من توثب وتحفز وطاقة هائلة على إقتحام المجهول وركوب الصعاب والأنواء والعواصف.
ساقتنا الى هذا الكلام فجيعة الطائرة الجزائرية، أمس، ونحن نكتب ما تقدم قبل أن تتوضح الأمور كفاية حول مصير الركاب.
فعسى العناية الإلهية تخفف الآلام.
وإن اللّه على كل شيء قدير.