لم يؤدّ تقليص صلاحيات الرئاسة بين الجمهوريتين الأولى والثانية الى تقليص أهمية هذه الانتخابات ولا الى تخفيض منسوب التوتر الذي يصيب البلد عند اقترابها. لم يدفع استمرار الاستحقاق الرئاسي في المحورية والأهمية الى مراكمة الدروس والخبرات بما يفضي الى احترام الأصول والمهل الدستورية المتعلّقة بانتخاب الرئيس. كل «استحقاق» في الجمهورية الثانية كان يحتاج الى تعديل «استثنائي ومكرر» للدستور. وبشكل تصاعدي، من ولادة رئاسية عسيرة الى أخرى، صار الاستفهام يطاول مستقبل الدستور نفسه. كلما خيّم على الجمهورية شبح الفراغ في قصر بعبدا رافقه خوف مضاعف من الانتقال من حال «الفراغ المدستر» أي الفراغ في الموقع الدستوري الاول، مع التقيد بما يمليه الدستور في هذه الحالة، الى فراغ لا دستور له.
في الواقع ليست ثمة «فراغ مدستر» بشكل واضح وشامل. كل يوم فراغ في الموقع الأول هو يوم قضم لمرجعية الدستور. وعندما يقوم نواب لبنانيون بتعطيل انتخابات رئاسية من خلال تعطيل النصاب، وعندما يشرح رئيس مجلس نيابي الدستور بالشكل الذي يؤمن التغطية لهذه العملية التي تجد ثقلها الأول في السيطرة المسلحة والأمنية لـ»حزب الله»، فنحن أمام نزعة واضحة الى الانقلاب على دستور البلاد، وعلى التوازنات التي يستند الدستور اليها، وفي مقدمتها مارونية الرئاسة الأولى. من يساهم في الدفع باتجاه الفراغ يقوم بعمل معاد للدستور ومنقلب على التوازنات الطائفية ومستهدف بشكل أساسي للمسيحيين.
لم يؤد تقليص الصلاحيات وشكوى المسيحيين المزمنة من ذلك الى عزوفهم عن النظر الى رئاسة الجمهورية على أنها الموقع الأول في الدولة اللبنانية. هب أنك عرضت عليهم رئاسة مجلس النواب أو مجلس الوزراء بدل رئاسة الجمهورية، ستقوم القيامة. يعود ذلك في جزء منه الى استشعارهم بأن ضياع رئاسة الجمهورية منهم سيعود فينتج رئاسة لبنانية «أقوى»، وعلى صورة الرئاسات العربية ومثالها. وهنا بيت القصيد الى حد ما أيضاً: بقدر ما لعب الصراع على الرئاسة دوراً سيئاً للغاية بتعبيراته التناحرية والاستنزافية ضمن الطائفة المارونية، مفرّخاً «مركبات العظمة» هنا وهناك، بقدر ما شكّلت مارونية الرئاسة الضمانة لبقاء مبدأ الفصل بين السلطات في لبنان، ولبقاء الحيز التفاضلي للنظام اللبناني في محيطه العربي.
في الوقت ذاته، لهذه الضمانة مستلزماتها، وتقضي أن يتعرّف جمهور المسيحيين على نفسه في رئيس الجمهورية، وأن يكون الرئيس مقبولاً لدى جمهور المسلمين. لكن ذلك صار أصعب منالاً بعيد الانشطار المذهبي – الأيديولوجي بين المسلمين، وانفعال الانقسام السياسي للمسيحيين بالانقسام المذهبي للمسلمين.
ونحن اليوم أمام اجتماع أمرين. أمر ليس له علاقة بسيطرة «حزب الله» ومشروعه التغلبي. وأمر له علاقة بهذه السيطرة وهذا التغلّب.
ما ليس له علاقة بـ»حزب الله» حصراً هو ان التركيبة الدستورية والسياسية اللبنانية تفترض لتمرير أي استحقاق رئاسي بشكل ملائم نسبياً أن يجتمع الشيء ونقيضه: «القوة» و»الضعف«.
فقوة المنصب الأول تعود الى انه منصب أول بالفعل لكنه «مبهم الحيلة». ونجاح الموارنة في الاحتفاظ به يعود الى قوتهم وضعفهم في آن: فالنبوءات بخروجهم من صلب السياسة اللبنانية ما فتئت تخيب، سواء في التسعينيات حين حرّكوا عملية استرجاع السيادة وقادوها، أو بعد انكفاء الوصاية حين تمكنوا من الحفاظ على الاستقرار الامني وحضور معالم الدولة في مناطقهم، وان انقسموا بين متفاهم مع «حزب الله» وبين طليعي في التصدي له. كذلك ، فحظوط النجاح في الانتخابات تتطلب هي الأخرى أن يأتي الرئيس قوياً وضعيفاً في آن، فمن دون حد أدنى من القوة لن تكون لديه حيثية يستند اليها في طائفته، ومن دون منسوب معين من الضعف لن يكون قادراً على تجاوز طائفته لنيل ثقة وأصوات نواب الطوائف الأخرى.
أما «حزب الله» فإنه اليوم الحزب الذي يقود عملية تعطيل الجلسات، وعدم طرح الثامن من اذار لمرشح رئاسي، ويهدّد بالفراغ الرئاسي اذا لم يتأمن رئيس يرضى عنه كحزب، أي يخضع للسلاح وإمرته، وهو فوق ذلك سبق له أن جمّل معنى الفراغ بدعوته الى «مؤتمر تأسيسي«.
لكن ذلك لا يكفي للحسم بحتمية الفراغ. نحن نتجه الى الفراغ لكن خطورته هذه المرة، ان لا صلح دوحة جديدا في الافق، وآليات اللجم الاقليمية للفوضى الداخلية لا يمكن الركون اليها، كما ان اجتماع المتخاصمين الداخليين في حكومة ربط نزاع هو سيف ذو حدين. كل هذا يعود فيعطي اهمية لربع الساعة الاخير، اي لورقة «تفادي الفراغ» كناخب خارجي له شأنه في الانتخابات الرئاسية.