ما يجري حالياً من هبّة شعبية في القدس والضفّة الغربية في فلسطين المحتلة، ومن قصف متبادَل بالصواريخ بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة والمستوطنات الإسرائيلية شمال القطاع، يكشف جملة حقائق لم تنجح كلّ الأحداث الدامية في المنطقة العربية في طمسِها، على رغم تفاؤل إسرائيل بأنّ انشغال العرب بالنزاعات الأهلية سيجعلها في وضعٍ آمن ومستقر.
يلاحظ سياسيون مواكبون للنزاع العربي ـ الإسرائيلي أنّ هذه الأحداث كشفَت أنّ الأوضاع داخل فلسطين تتدحرج في اتّجاه انتفاضة ثالثة في مناطق الاحتلال، وفي اتّجاه حرب ثالثة في قطاع غزّة، بكلّ ما تحمله هذه التطوّرات من تداعيات على مستوى المنطقة بأسرها، والتي لا يُستَبعَد أن تقود إلى حرب واسعة تشمل أكثر من منطقة وجبهة.
كذلك يلاحظ هؤلاء السياسيون مدى قلقِ إسرائيل من مجريات هذه الاحداث، وهو قلقٌ عبَّر عنه نائب وزير الدفاع الإسرائيلي داني دانون حين قال إنّ قدرة بلاده على الردع تتآكل يوماً بعد يوم، فيما عبَّر رئيس سابق للاستخبارات الإسرائيلية عن أنّ ما يجري داخل فلسطين هو أخطر من المفاعل النووي الايراني. وقد لخّصت صحيفة «واشنطن بوست» هذا المشهد الفلسطيني بقولها إنّ صوَر التظاهرات في القدس تُذكّر بصوَر الانتفاضة الفلسطينية عام 2000.
ويضيف السياسيون إيّاهم أن من المفارقات المرافقة لهذه التحوّلات أنّ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو كان يطمح الى استغلال حادثة اختطاف المستوطنين الثلاثة لتفكيك حكومة المصالحة الوطنية التي اتّفقت حركتا «فتح» و»حماس» على تأليفها قبل أسابيع، فإذا بالأمور تتطوّر على نحو يهدّد حكومته نفسَها بعد أن أعلن وزير خارجيتها وزعيم حزب «إسرائيل بيتنا» افيغدور ليبرمان استقالته من الحكومة آملاً أن يلحق به وزراء آخرون معترضون على سياسات نتنياهو المتردّدة في مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية.
ولكنّ الأكثر خطورةً هو ما أعلنَه المجلس الوزاري المصغّر الذي انعَقد أمس، من أنّه سيمنح «حماس» فرصةً جديدة للتهدئة في غزّة، في حين كان مثلُ هذا المجلس إذا انعقَد يُنذر بالتصعيد العسكري ضدّ الفلسطينيين. ويرى السياسيّون أنفسُهم في هذا البيان إقراراً رسمياً إسرائيلياً بالعجز عن السير قدُماً في التصعيد العسكري، واعترافاً بدَور «حماس» التي كان المسؤولون الإسرائيليون يُحرِّمون التعاملَ معها ويعتبرونها منظمة إرهابية خطيرة ينبغي مواجهتها ومواجهة كلّ من يتعاون معها.
ويسأل هؤلاء السياسيون المراقبون عمّا إذا كنّا أمام هزيمة جديدة لإسرائيل تشبه هزائمَها السابقة في جنوب لبنان وقطاع غزّة خلال الأعوام 2006 و2008 و2012. ويضيفون أنّها كانت تواجه في فلسطين الانتفاضة تارةً والمواجهة العسكرية مع قطاع غزة تارةً أخرى، لكنّها لم تواجه مرّة واحدة الانتفاضة الشعبية والمواجهة العسكرية في وقت واحد.
ويستطرد المتفائلون من هؤلاء المراقبين مؤكّدين أنّ الذكرى الثامنة لحرب تمّوز مع لبنان ستشهد انتصاراً لمنطِق المقاومة، ولكن هذه المرّة داخل الأراضي الفلسطينية نفسها. فلقد اكتشفَ الإسرائيليون أنّ المِحن الداخلية التي تعيشها أقطار عربية محورية في النزاع معها، كسوريا والعراق ومصر، لم تمنع الفلسطينيين من الاعتماد على أنفسهم وخوضِ معاركهم بمعزلٍ عمّا يحوط بهم، تماماً كما خاضَت المقاومة اللبنانية نفسُها حربَ تحرير أرضها المحتلة قبل العام 2000، فيما كانت غالبية الدول العربية تشيح بأنظارها عمّا يتعرّض له لبنان، بل تستكثر عليه اجتماعاً على مستوى القمّة، أو على مستوى وزراء الخارجية الذين لم يجتمعوا لأجل لبنان إلّا قبل أشهر من انتصار مقاومته وتحرير أرضِه، بعدما أعلنَ المسؤولون الإسرائيليون أنفسُهم نِيَّتهم الإنسحاب من الجنوب.
ولذلك يعتقد هؤلاء السياسيون أنّ الحكومة الإسرائيلية تواجه مأزقاً كبيراً، فهي عاجزة عن حسمِ الأمور لمصلحتها، وكذلك هي رافضةٌ أيَّ تراجع يعطي المقاومة والانتفاضة دفعاً كبيراً. ويرَون أنّ توسيعاً للعمليات داخل فلسطين ستكون له تداعياته على غير جبهة من جبهاتها الشمالية والشرقية والجنوبية، بل إنّه قد يُعيد الاصطفافات العربية والإقليمية بما يغلق كثيراً من الجروح التي أحدثها «الربيع العربي» في صفوف محور «المقاومة والممانعة»، ولا يستبعدون أن يرَوا محور إيران ـ سوريا ـ حزب الله مستوعباً حركة «حماس»، وأن تؤدّي هذه التداعيات إلى بناء جسور جديدة بين القيادة المصرية و»حماس»، وهي جسور بدأتها القاهرة مع حركة «الجهاد الإسلامي» بالوكالة عن «حماس» خلال عملية «كسْر الصمت» التي اندلعت بين إسرائيل وقطاع عزّة. فهل تُعيد التطوّرات الجارية في فلسطين القضيةَ الفلسطينية إلى الصدارة بين أولويات الأطراف المتنازعة في غير بلد عربي؟ وهل ستُسرِّع واشنطن جهودَها لتشكيل جبهة يتلاقى فيها خصوم الأمس واليوم لمكافحة الإرهاب؟
كلّها أسئلة مطروحة برسمِ الأيام المقبلة التي تؤكّد لكثيرٍ من العرب والمسلمين أنّ فلسطين هي البوصَلة، فمَن سار على هَديِها فاز، ومَن أهمَلها ارتبكَ وتعثّر، حسب السياسيّين أنفسِهم.