يبحث الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وكبار مساعديه عن استراتيجيات لتناول نزاعات وتحديات منطقة الشرق الأوسط كي لا تبدو الأمانة العامة عاجزة عن الضلوع بمسؤولياتها رابضة في ظل فشل مجلس الأمن وانقساماته – الحقيقية منها وتلك المواتية لكل من روسيا والولايات المتحدة. اليوم، وفيما منطقة الشرق الأوسط تمر بإحدى أهم المراحل من مسيرة التغيير الصعبة والمعقدة، لا توجد سياسة واضحة للأمم المتحدة وخريطة طريق لدور مميز لها على الصعيدين الإقليمي والدولي. الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن – زائد إلمانيا – تفاوض الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الملف النووي في فيينا بعزم على إنجاح تلك المفاوضات لتتكلل برفع العقوبات تدريجياً عن طهران. هذه الدول تتعمد غض النظر عن الانتهاكات الإيرانية للقرار 1747 الذي فرض بموجب الفصل السابع من الميثاق حظراً تاماً على قيام طهران ببيع أو نقل أية أسلحة أو خبراء عسكريين من أراضيها الى أية دولة أخرى. بكلام آخر، ان الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا توافق روسيا والصين على اعفاء ايران من المحاسبة على انتهاكاتها قراراً لمجلس الأمن تم تبنيه بموجب الفصل السابع يُلزم كل الدول بتطبيقه. وهذا يعني ان الدول الخمس تنتهك قرار مجلس الأمن وهي تقفز عمداً على الانتهاكات الإيرانية – لحماية المفاوضات النووية. هذه السابقة الخطيرة أدت بالدول الخمس الى أسوأ أداء لها عبر العقود الماضية، بل ربما في تاريخ الأمم المتحدة. وهذا يحدث فيما تنخرط الدول الخمس الكبرى في مهزلة مفاوضات بطيئة وسخافة بيانات عائمة بينما عدد القتلى في سورية يفوق الـ 150 ألفاً والكارثة الإنسانية تتفاقم. ليس في وسع بان كي مون التدخل في شؤون مجلس الأمن ولا يمكن له الإملاء عليه. لكن الأمين العام للأمم المتحدة ليس خادماً لمجلس الأمن بموجب ميثاق الأمم المتحدة، انه مستقل عن مجلس الأمن ولديه صلاحيات لا تخضع للمجلس بل وله حق القيادة الأخلاقية والسياسية عبر اللجوء الى المادة 99 التي تعطيه حق طرح القضايا التي يرفض مجلس الأمن طرحها. لذلك، من المفيد للدول التي تعارض انبطاح كبار أعضاء مجلس الأمن أمام الانتهاكات الإيرانية في العراق وسورية ولبنان أن تتنبه إلى ضرورة صياغة مقاربة جديدة مع الأمانة العامة للأمم المتحدة.
حدث العراق أعاد خلط الأوراق وهو يفتح نافذة على تفكير مختلف نحو الحدث السوري ونحو الدور الإيراني في كل من سورية والعراق. هذه فرصة لكل من الأمانة العامة للأمم المتحدة ولدول مجلس التعاون الخليجي للاستماع الى بعضهما بعضاً بإصغاء ولإصلاح العلاقة المتوترة التي سادت في الفترة الأخيرة بسبب الاختلاف حول سورية.
الخلاف الأساسي بين المملكة العربية السعودية والأمانة العامة للأمم المتحدة هو حول شرعنة الدور الإيراني في سورية والعراق. الأمم المتحدة ترى ان التوصل الى حلول في سورية والعراق يتطلب، منطقياً، الإقرار بالدور الإيراني والنفوذ الإيراني في هذين البلدين. وهي ترى أن لا مناص من التحدث والتفاوض مع ايران حول مصير سورية والعراق معاً.
الموقف السعودي يعارض تماماً ذلك الطرح على أساس ان انخراط الأمم المتحدة مع إيران في شأن سورية أو العراق يضفي شرعية على الطموحات الإيرانية الإقليمية التي تتعدى الحدود الإيرانية ويشرعن الدور والنفوذ الإيرانيين في هذين البلدين العربيين. الرياض تعارض إضفاء الأمم المتحدة الشرعية على التدخل الإيراني في العراق – سياسياً – وفي سورية عسكرياً وذلك عبر «حزب الله» الذي يقاتل في سورية علناً تلبية لطلب إيران وعبر تواجد «الحرس الثوري» الإيراني في سورية والعراق – بانتهاك واضح لقرار مجلس الأمن الملزم.
رأي الرياض هو أن من واجب الأمم المتحدة – أمانة عامة ومجلس أمن – محاسبة إيران على انتهاكاتها بدلاً من إعفائها. رأيها أن الطلب منها مباركة شرعنة الدور الإيراني في سورية والعراق خطأ فادح ترتكبه الأمانة العامة للأمم المتحدة. والرياض لن تتقدم بهدية الشرعنة هذه مهما حصل.
ما هي على استعداد لتقديمه يتمثل في شراكة ضرورية مع الأمانة العامة والأسرة الدولية في مكافحة «داعش» على نسق مكافحة «الصحوات» العراقية لـ «القاعدة» لإلحاق الهزيمة بها. ترى الرياض أن دورها ونفوذها مع سنّة العراق وسورية ذخيرة أساسية في أيدي الأمانة العامة والأسرة الدولية إذا كانت الأمم المتحدة تريد حقاً تبني مقاربة جديدة في هذين البلدين – مقاربة لا تعتمد إيران كحجر أساسي لمصير البلدين كما هي الحال الآن.
بات «دارجاً» هذه الأيام التحدث عن «المقاربة الإقليمية للحل في سورية والعراق. وها هي المؤسسات الفكرية Think tanks الغربية تنصّب على «إيران أولاً» في تلك المقاربة وتعمل على ما يسمى ديبلوماسية «المسار الثاني» track two diplomacy التي بدورها تعمل على شرعنة الدور الإيراني في سورية والعراق تحت عنوان «البراغماتية». هذه المؤسسات – وبعضها تموّله الدول الخليجية المسحورة بالمؤسسات الفكرية الغربية – تستغرق في غض النظر عن الانتهاكات الإيرانية للقرارات الدولية ودور «حزب الله» و «الحرس الثوري» بقيادة قاسم سليماني في سورية والعراق. وفيما تتعمد إعفاء الطرف الإيراني من المحاسبة، توجّه اللوم الى السعودية بزعم أنها تغذي التطرّف السني متناسية تماماً إنماء إيران للتطرف الشيعي بمختلف أنواعه ولاستخدام إيران وحلفائها التطرف السني بل ولصوغه في أكثر من حالة.
في الفترة الأخيرة أدركت الرياض ضرورة تبني إجراءات ضد مواطنيها المتورطين في الإرهاب وهي مُطالبَة ان تفعل أكثر. أما ان يتحدث بعض موظفي الأمم المتحدة عن مسؤولية سعودية في أحداث سورية والعراق بإعفاء تام للمسؤولية الإيرانية في هذين البدلين، فهذا إما غباء خارق أو تفكير خطير.
فإذا أرادت الأمانة العامة الانخراط مع السعودية باعتبارها دولة ذات نفوذ في المنطقة العربية، عليها أولاً ان تميز بين الدورين السعودي والإيراني في الدولتين العربيتين (العراق وسورية). عليها ان تستمع بدقة الى الطروحات السعودية لجهة مساعدتها في جهودها الرامية الى حوار وطني شامل في البلدين. وعليها ألاّ تستمر في الانسياق وراء شرعنة الدور الإيراني بصفته مفتاح الحل في البدلين. وأخيراً، عليها الكف عن الافتراض الساذج بأن الانتصارات المرحلية هي انتصارات دائمة – وهذا يعني أن على كبار موظفي الأمم المتحدة التوقف عن التفكير بمستقبل سورية من منظور انتصار بشار الأسد وبقائه في السلطة.
وعلى الديبلوماسية السعودية التحرر من نمط المقاطعة وعدم الانخراط لأن ذلك في غير مصلحتها أو مصلحة العراق وسورية. الرياض أعادت مقعدها في مجلس الأمن الى الأمم المتحدة تعبيراً عن غضبها من المجلس. بعضهم يعتبر تلك الإجراءات رسالة مهمة وموقفاً لا سابقة له أيقظ الأمم المتحدة الى مساوئ مواقفها. وبعضهم الآخر يعتبرها إجراءات تكتيكية عابرة وليست استراتيجية. المهم، ان الوقت حان الآن لصفحة جديدة مع الأمم المتحدة لأن الامتناع عن الانخراط سياسة خاطئة سيما ان السياسة الإيرانية متأهبة للانخراط وتسويق المواقف الإيرانية.
فمن الضروري للرياض فتح قنوات دائمة مع الأمانة العامة على اعلى المستويات. حسناً فعلت بقرارها الأخير تقنين المساعدات بقيمة 500 مليون دولار للعراق عبر الأمم المتحدة. فهذه خطوة بنّاءة. والآن، يجب إلحاق هذه الخطوة بخطوات أخرى على مستوى التطورات في المنطقة.
هذا الأسبوع، ربما يعلن بان كي مون اسم ومهمات الممثل الجديد لسورية الذي يحل مكان الأخضر الإبراهيمي. دمشق وموسكو تعملان على إزالة الشق العربي من مهمات الممثل المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. السفير الروسي فيتالي تشوركين يقول ان تلك هي نصيحة الأخضر الإبراهيمي. وبعض كبار مساعدي الأمين العام يعتقد ان انهاء الشق العربي من مهمات الممثل الجديد يفتح فرصة على مقاربة جديدة تحتاج تعاون دمشق وموسكو.
إذا وافق بان كي مون على تلك النصيحة وقرر إنهاء الشق العربي يكون ارتكب خطأً فادحاً ليس فقط بحق سورية وإنما أيضاً لجهة علاقة الأمم المتحدة بالدول العربية. والأرجح أنه لن يفعل لأنه يدرك تماماً ان ذلك سيخدم النظام في دمشق وحليفه في موسكو.
واشنطن، من جهتها، لا تريد ممثلاً بإرادة قوية ويعزم على مقاربة تفضح تلكؤها. وهي بذلك تتفق مع موسكو في الرغبة في شخصية تهادنية. لذلك مارس كلاهما «الفيتو» على رئيس الوزراء الأسترالي السابق كيفن رود خوفاً من عزمه على دفع مجلس الأمن الى تحمل مسؤولياته.
الأسماء التي شقت طريقها الى القائمة عديدة. والأهم، هو الولاية التي ستوكل الى الممثل الجديد. واضح ان عملية جنيف انتهت سيما ان الأخضر الإبراهيمي نفسها وصفها بأنها كانت «سطحية». المقاربة الجديدة يجب ألاّ تكون قائمة على تفاهمات «سطحية» أو ساذجة تفترض موافقة الأسد على التخلي عن السلطة أو تقاسمها مع المعارضة. المقاربة الجديدة يجب ألاّ تنطلق من الافتراض ان الرئيس السوري بشار الأسد بات «واقعاً» دائماً من الضروري الإقرار بدوامه. فالأسد ليس قادراً على توحيد الشعب السوري. والأسد لن يتمكن أبداً من أن يصبح ضامن الاستقرار في سورية. وعلى الأمم المتحدة أن تفكّر ملياً في ذلك قبل صياغة الولاية الموكلة الى الممثل الجديد.
المقاربة الجديدة يجب أن تأخذ في حسابها ان الموازين العسكرية على الأرض في صدد اعادة الفرز وأن هناك حاجة الآن الى عملية سياسية وطنية في سورية (كالتي ستحدث في العراق قريباً). عملية جنيف كانت عبارة عن «حوار سوري» بين النظام والمعارضة. فشلت لأن النظام لم يكن مستعداً للتخلي عن امتيازاته وسلطته ليتقاسم الحكم مع المعارضة. المقاربة الجديدة يجب أن تتبنى قاعدة الحوار الوطني بين مختلف الأقطاب والقطاعات السورية – السياسية والعسكرية – للتوصل الى عملية سياسية جديدة نوعياً.
مثل هذه المقاربة، إذا انطلقت بعزم دولي، يمكن لها أن تُطلق حديثاً إقليمياً جديداً من نوعه يرغم الدول الفاعلة على الانخراط فيه. إيران بالتأكيد ستقاوم مثل هذه المقاربة، وكذلك روسيا. فالمحور الذي يضمهما هو محور فلاديمير بوتين وقاسم سليماني وكلاهما ينظر الآن الى امتداد ذلك المحور عراقياً ليشمل نوري المالكي كما شمل بشار الأسد. هذا المحور سيقاوم المقاربة الجديدة. سيبيع الكلام المعسول، إنما سياسته باتت واضحة وهي عدم الاستغناء عن بشار الأسد تحت أي ظرف كان.
لذلك، عملياً ومنطقياً، أن المقاربة السياسية الجديدة تتطلب بالضرورة تغييراً ميدانياً في موازين القوى العسكرية على الأرض. وهذا ما يحدث الآن. فالانتصارات المرحلية وهمية. وهذا ما يجدر بالأمم المتحدة إدراكه وهي تصيغ خياراتها الإستراتيجية الممتدة في رعاية حوار وطني جدي يشمل العشائر ورجال الأعمال والأقليات، إلى حديث إقليمي يتضمن إيران شرط وضع ما تقوم به في سورية والعراق على الطاولة وليس إخفائه تحت الطاولة.